المحذور الرابع من هذه المحاذير هو الاختلاف، والاختلاف من الأمور التي يتحدث عنها الإنسان وهو يشعر بالأسى والحزن على واقع الأمة الإسلامية التي أصبحت كما قال القائل: وتفرقوا شيعاً فكل قبيلةٍ فيها أمير المؤمنين ومنبر وكما قال الآخر: مما يزهدني في أرض أندلس ألقاب معتصم فيها ومعتضد ألقاب مملكة في غير موضعها كالهر يحكي انتفاخا صولة الأسد أصبحت مسألة التفرق والاختلاف والتنازع بين المسلمين من أخطر المسائل وأهم القضايا، ولذلك لابد من إلقاء الضوء على هذه النقطة.
فمسألة الاختلاف من حيث الأصل هي قضية لا بد منها، وهذا أمر يخفى على كثير من الناس، ومع أن الأمة الإسلامية تعيش حالة من التمزق والاختلاف عظيمة إلا أنك مع ذلك تجد من الدعاة والمصلحين وطلاب العلم من يقول لك: يا أخي يمكن جمع المسلمين كلهم على كلمة واحدة ورأي واحد في الأصول وفي الفروع، وأنا أعتقد أن هذا الأمر غير صحيح ولا ممكن، بل إنني أقول: إنه مستحيل، صحيح جمع الناس على الأصول لابد منه ولابد من الدعوة إليه سواءً استجابوا أو لم يستجيبوا.
أما فيما يتعلق بالفروع الفقهية، فإذا كنا نعرف أن الصحابة رضي الله عنهم اختلفوا في هذه الفروع أبو بكر الصديق وعمر والعشرة المبشرون بالجنة وأصحاب بدر وبيعة العقبة وبيعة الرضوان وكذا وكذا، أفضل جيل فيهم اختلافات في الفروع في قضايا فقهية كثيرة، كما حدث لمن بعدهم، ولذلك تجد أن الأقوال الفقهية إذا ذُكرت قيل: وهذا القول قال به أبو بكر وفلان وفلان، والقول الآخر قال به عمر وابن مسعود وفلان وفلان.
وإذا حدث الاختلاف في عهد الصحابة وهم أفضل الناس وأعلم الناس وأكثر الناس تجرداً وأوسع الناس عقولاً، فمن البديهي أن يقع الاختلاف فيمن بعدهم، بل أن يزيد ويكثر وينمو، ولذلك فإن الاختلاف أمرٌ واقع ليس في القضايا الفقهية الفرعية فقط، بل في أمور عديدة سوف ترد الإشارة إليها.
وليس المهم إخواني الكرام القضاء على الخلاف، لكن الشيء المهم الذي يجب أن يكون همّا لكل غيور على الإسلام هو إيجاد منهج سليم للتعامل مع الخلاف الواقع، كيف نتعامل مع هذا الخلاف؟ هذا هو المهم، لا يكون السؤال عندك كيف نقضي على الخلاف، لا، ليكن السؤال عندك كيف نتعامل مع الخلاف؟ وسأحاول الإجابة على جزء من هذا السؤال.
1- البعد عن التعصب لغير الحق: فأولاً: لابد من البعد عن التعصب لغير الحق، فإن من أسباب الخلاف التعصب لشخص سواءً كان هذا الشخص عالماً أم شيخاً تتلمذت عليه، أم كان داعيةً تدور في فلكه وتتلقى عنه وتتعلم منه وتستشيره في أمورك، بحيث تتعصب لهذا الإنسان وترى أن ما يقوله هذا الإنسان حق، فإذا والى هذا الإنسان أحداً واليته، وإذا عادى أحداً عاديته، أحب أحداً أحببته، أو أبغض أحداً أبغضته، مدح مدحت أو ذم ذممت، وهذا تقليد غير سليم؛ لأن المفروض أن يكون الولاء في الحق، نوالي أهل الإسلام وأهل الخير مهما كانت ألوانهم وأشكالهم وأحوالهم، ونخطئ الخطأ مهما كان مصدره.
فالتعصب لشخص أو التعصب لراية أو التعصب لحزب أو جماعة أو طائفة، هذا من أعظم أسباب شيوع الاختلاف وانتشاره، ونحن أيها الإخوة أمام أمانة حملنا الله تبارك وتعالى إياها وسوف يسألنا عنها، من واجبنا أن نساهم في علاج جراحات هذه الأمة الإسلامية وآلامها بأن يكون تعصبنا للحق وحده، وأن نخلع التعصب للأشخاص وللطوائف، والهيئات، والأحزاب، والشيوخ إلى غير ذلك.
المسلمون الغيورون على وحدة الأمة يعلنون أساهم وحزنهم من التعصب المذهبي، واليوم حل محل هذا التعصب المذهبي التعصب للفئات والجماعات، وأصبحت تمزق كثيراً من المسلمين وتفرق بينهم، وتوجد الحواجز في نفوسهم وفي واقعهم، ولذلك لابد في موضوع معالجة الخلاف من التجرد للحق بقدر ما يستطيع الإنسان، لا شك أن الإنسان ليس ملكاً لكنه يحرص على أن يتجرد للحق من جميع الملابسات الأخرى الثانوية من التعصب لشيخ أو طائفة، أو مسلك أو راية، أو ما أشبه ذلك.
2- عدم تضخيم الخلاف: ثانيا في قضية معالجة الخلاف: مسألة عدم تضخيم الخلاف في القضايا الفرعية، الخلاف في الفروع أمر موجود منذ فجر الإسلام، موجود حتى في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم، وحين قال عليه الصلاة والسلام، كما في الصحيحين: {لا يصلين أحدٌ العصر إلا في بني قريظة} اختلف الصحابة في كيفية تطبيق هذا الحديث فبعضهم قالوا: لا نصلي العصر إلا في بني قريظة حتى لو فاتت الصلاة، وبعضهم قالوا: إنما أراد منا الإسراع فصلوا في الطريق، ومع ذلك لم يعنت النبي صلى الله عليه وسلم أحداً منهم، وبالتالي اختلف العلماء من بعدهم أيهم المصيب: الذي صلى في الطريق أو الذي صلى في بني قريظة، فالخلاف موجود.
الخلاف الفقهي الفرعي موجود ولا شك أن له ضوابط، فما كل من قال بقول يقبل منه هذا القول، أو رجح شيئاً يقبل منه، لكن المقصود أن أصل الخلاف بين أهل العلم الذين هم أهل العلم فعلاً؛ أصل هذا الخلاف موجود، لا ينبغي أن يتحول هذا الخلاف الفرعي إلى عداوات وخصومات وولاء وبراء، مثلاً بعض الشباب يجعل سنة من السنن أصلاً، من فعلها أحبه ومن تركها أبغضه، تقول له: لماذا؟ قال لك: لأن هذه السنة أصبحت شعاراً للصالحين، فمن لا يجلس جلسة الاستراحة مثلاً ينظر إليه نظرة ريبة، هذا لا يحب السنة ولا يعمل بها، لماذا يا أخي؟ قال لك: صحيح أن العلماء اختلفوا وأحمد قال كذا، والشافعي قال كذا، ولكن اليوم أصبحت جلسة الاستراحة شعاراً لمن يطبق السنة، من قال هذا؟ ومن الخطأ أن تصبح شعاراً، عيب أن تصبح هذه شعاراً، صحيح أنها سنة على رأي جماعة من أهل العلم ورجح ذلك بعض شيوخنا المعاصرين كسماحة الشيخ/ عبد العزيز بن باز ولا ينبغي التضييق على من فعلها ولو أحياناً، بل ينبغي أن يفعلها، لكن فرق بين هذا وبين أن تتحول إلى شعار.
السنة أصبحت شعاراً!! هذه من المعضلات أن توضع الفروع مكان الأصول، وضع اليدين مثلاً بعد القيام من الركوع، كيف يخر الإنسان إذا هوى إلى السجود يقدم ركبتيه أم يقدم يديه؟ هل يرفع يديه عند تكبيرات الجنازة أو لا يرفع يديه؟ هل يغتسل للجمعة وجوباً أو لا يغتسل؟ مصيبتنا أن هذه القضايا أصبحت هماً مسيطراً على نفوس كثير من الشباب، وهي التي تملأ وقتهم وحياتهم، وليس هذا فقط بل الولاء والبراء يدور حول هذه القضايا حتى أني وجدت في كتاب كتبه أحدهم، كاتب هذا الكتاب قد يرجح مسألة من المسائل ثم يقول بعد الترجيح وهذا دين الكتاب والسنة، أي: الذين خالفوك في هذا القول الذي اخترته أتوا بآرائهم من التوراة والإنجيل، وإلا من أين أتوا بها، والغريب أنه قال هذه الكلمة وفي رأيي أنه رجح خلاف ما عليه أهل الحق، وخلاف القول الصحيح لمجرد فهمٍ تبادر إلى ذهنه من ظاهر آية، وصار يقول هذا دين الكتاب والسنة، معنى ذلك أنه يوالي فيه ويعادي فيه ويعتبر من قال بهذا فهو مخالف للكتاب والسنة، وربما يحمل عليه وربما ينكر جميع فضائله ومحاسنه وما قدمه للإسلام والمسلمين من خدمات.
من الخطأ أن يتحول الاختلاف الفقهي إلى حزازات وخصومات وعداوات.
3- الخلاف لا يضر: ثالثاً: في موضوع الخلاف أيضاً يجب أن نعلم أن هناك خلافاً في معالجة بعض الأمور الاجتهادية الواقعية، وهذا خلاف لا يضر ما دام مبنياً على المصلحة، خلاف مثلاً في التعامل مع بعض القضايا الواقعية، خلاف في تقدير المصلحة، خلاف هل أنكر الآن أو غداً واليوم جدت أشياء كثيرة جداً يختلف الناس حولها، وقد يختلف الدعاة في التعامل مع هذه الأشياء، سواء أكانت منكرات أو أمور أخرى، وقد يختلفون في نوعية التعامل معها وفي الأسلوب وكيفية طريقة التغيير؟ فالخلاف في الأمور الاجتهادية هو الآخر وجد في عهد الصحابة رضي الله عنهم، بل نحن نعرف أن الصحابة اختلفت مواقفهم لما حدثت الفتنة في أواخر عهد الصحابة فمنهم من كان مع علي رضي الله عنه، ومنهم من كان في الطرف الآخر مع معاوية رضي الله عنه، ومنهم من اعتزل وانفرد وقال: لا أدخل مع هؤلاء ولا مع هؤلاء حتى تنزل القضية وتتضح لي، ومع ذلك فكانوا كلهم على خير ولهم فضل وإحسان ومكانة وكان منهج أهل السنة والجماعة اعتقاد أن الكل من هؤلاء مجتهدون لهم أجر اجتهادهم، والمصيب منهم له أجر الاجتهاد وأجر الإصابة، وما كان هذا مدعاة إلى أن ينال أهل السنة من أحدٍ منهم.
ولذلك فإن القضايا الواقعة قد يختلف الناس في تقدير المصلحة فيها أو التعامل معها، فهذا الاختلاف المبني على الاجتهاد هو الآخر اختلاف يجب أن يكون مقبولاً، ولا يمنع أني اعتبر أنك مخطئ في اجتهادك، لكن هذا الخطأ في اعتقادي لا يوجب أن يكون بيني وبينك خصومة أو عداوة وتباعد.
4- الاختلاف في الوسائل مباح: النقطة الرابعة أن هناك اختلاف في الوسائل، والأصل في الوسائل أنها مباحة إذا لم يكن هناك دليل واضح على تحريمها، ولذلك استفاد الصحابة رضي الله عنهم من وسائل كثيرة ما كانت موجودة في عهد النبي صلى الله عليه وسلم، مثل مسألة تدوين الدواوين، بل إننا نجد أن هناك أموراً نهى عنها النبي صلى الله عليه وسلم في بعض الأحاديث، مثل مسألة كتابة حديث الرسول صلى الله عليه وسلم، فقد كان ينهى عن كتابة الحديث يقول: {لا تكتبوا عني شيئاً غير القرآن} إلى جوار أحاديث أخرى بينت جواز الكتابة كما قال عليه الصلاة والسلام: {اكتبوا لـ أبي شاة} ولذلك كان الصحابة والعلماء مختلفون هل تجوز كتابة الحديث أو لا تجوز، لكن الغريب أنه حصل إجماع بعد ذلك من العلماء على جواز كتابة الحديث، بل على مشروعيته، هذا الإجماع ما هو الداعي إليه بعد وجود الخلاف؟ الداعي إليه أنهم رأوا أن هذه وسيلة ضرورية لحفظ السنة النبوية وبرزت هذه الحاجة إلى العيان، فلم يعد هناك مجال للاختلاف فيه، ولذلك قد يختلف العلماء يوماً من الأيام في مسألة، ثم يجمعون على حكم فيها بعدما بان الأمر واتضحت الحاجة والمصلحة فيها.
وهناك قضايا واقعية كثيرة جدت اليوم في هذا العصر