وسوف أسوق لكم بعض تلك الأحاديث ثم أبين الوجه الصحيح في فهم هذه الأحاديث والجمع بينها وبين حديث ابن عمر السابق.
ففي الحديث المتفق عليه عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم سئل: {يا رسول الله: أي الناس أفضل؟ فقال: مؤمن مجاهد في سبيل الله عز وجل قيل له: ثم أي؟ قال: رجل في شعب من الشعاب يعبد الله ويدع الناس من شره} فالإنسان حين يسمع هذا الحديث، يجد أن المؤمن المعتزل المتعبد في شعب من الشعاب، يأتي في المرتبة الثانية -بادي الرأي- بعد المؤمن المجاهد بنفسه وماله، ومثل هذا الحديث بل وأوضح منه في الدلالة ما رواه مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {من خير معاش الناس لهم رجل راكب على متن فرسه في سبيل الله، كلما سمع هيعة طار إليها، يبتغي الموت أو القتل مظانة، ورجل في شعب أو شظية جبل يعبد الله عز وجل ليس من الناس إلا في خير} وهذا الحديث أقوى في الدلالة على العزلة من الحديث الأول، لأن الحديث الأول اعتبر المجاهد في الدرجة الأولى، واعتبر المعتزل بعده في الدرجة، أما في هذا الحديث فقد قرن بينهما في الواقع، فقال رجل على متن فرسه ورجل في شعب أو شظية جبل، فكأن ظاهر الحديث يقتضي اشتراكهما في الفضيلة.
ولهذين الحديثين شواهد كثيرة جداً عن النبي صلى الله عليه وسلم، فيا ترى ما هو الوجه الصحيح في فهم هذه الأحاديث؟ وهل الرسول صلى الله عليه وسلم يحثنا على الاعتزال ويرغبنا فيه؟ وكيف يكون ذلك مع ما سبق في الحديث الصحيح من أنه صلى الله عليه وسلم فضل المخالطة على الاعتزال وترك معاشرة الناس.