الاستواء والمكانية

{ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ} [الرعد:2] فذكر الاستواء على العرش بعد خلق السماوات والأرض، والكلام في الاستواء هو كما سبق من إثباته إثباتاً حقيقياً كما يليق بجلاله عز وجل، ولا يلزم منه ما يلزم من استواء المخلوقات بعضها على بعض؛ من الحصر أو المماسة أو غير ذلك.

وأما زعم بعضهم: من أنه يلزم من إثبات الاستواء؛ القول بأن الله تعالى في مكان، ويقول بعضهم: كان الله ولا ما كان وهو الآن على مكان قبل خلق المكان، أي يريدون أن ينفوا أن يكون الله تعالى في مكان فيقول بعضهم كان الله ولا مكان وهو الآن على ما كان قبل خلق المكان، أي: يروجون نفي المكان، فيقولون: في غير مكان، أو لا في مكان، فهو على ما كان عليه.

فنحن نقول لهم: إن المقصود بالمكان يختلف؛ فإن قصدتم المكان الوجودي المخلوق الحادث كالأمكنة الموجودة في هذه الدنيا؛ فإننا لا شك ننزه الله سبحانه وتعالى عن أن يكون حالاً فيها، ولا يقول بوجود الله سبحانه وتعالى في هذه الأمكنة إلا الحلولية، وهم فئة من الصوفية الملاحدة.

وأما إن أرادوا بالمكان: المكان العدمي الذي هو خلاء محض؛ فإن هذا لا يتعلق به خلق أصلاً، ولا يمنع أن نقول: إن الله تعالى في مكان بهذا الاعتبار، باعتبار الخلاء العدمي الذي لا يتعلق به خلق أصلاً.

وأما قولهم: وهو على ما كان قبل خلق المكان؛ فإننا نقول: إن الله عز وجل ذكر أنه خلق السماوات، والأرض، والعرش، ثم استوى على العرش، فنثبت له ما أثبته لنفسه، دون أن يلزم من ذلك أيُّ لازم باطل مما يدَّعونه، أو مما يلزم من استواء المخلوقات بعضها على بعض.

ولعل من حماية العقل البشري من الضياع والعبث والتشتت، وحماية عقيدة المؤمن من أن تتلاعب بها الأهواء والأقيسة المنطقية، التي لا تستقر على حال؛ أن يؤمن العبد بما أخبر الله تعالى، وبما يقرؤه في كتاب ربه وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم، ويطمئن قلبه بذلك، دون أن يسمح للعقل -أصلاً- أن يتيه في هذه البيداء، التي لا هادي فيها ولا مرشد إلا كتاب الله تعالى وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم.

طور بواسطة نورين ميديا © 2015