قوله عز وجل: (تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ) [الفرقان:1]

معنى تبارك: أنه من البركة أي: أنه تبارك في ذاته وبارك غيره، من شاء من خلقه، كما قال سبحانه: {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ} [الإسراء:1] وقال تعالى: {وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْقُرَى الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا} [سبأ:18] وقال: {رَحْمَتُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ} [هود:73] إلى غير ذلك، فالله تعالى تبارك في ذاته وبارك غيره ممن شاء من خلقه، من بلاد وأرض وأناس وأعمال، فهذا معنى قوله: (تبارك) ولهذا لا تطلق على غيره سبحانه؛ فلا يجوز أن تقول لإنسان: تبارك فلان.

{تَبَارَكَ الَّذِي نزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ} [الفرقان:1] والفرقان: هو القرآن، وإنما سمي فرقاناً؛ لأنه يفرق بين الحق وبين الباطل.

وقوله: {تبارك الذي نزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيراً} [الفرقان:1] .

وصف الله تعالى نبيه محمداً صلى الله عليه وسلم بالعبودية؛ لأنها أشرف الصفات، فأشرف الصفات أن تصدق عبودية العبد لله سبحانه وتعالى؛ ولهذا ذكر الله تعالى العبودية لنبيه عليه الصلاة والسلام في مواضع التنزيل، كما في قوله: {وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا} [البقرة:23] وقال: {تَبَارَكَ الَّذِي نزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ} [الفرقان:1] .

كما ذكر العبودية في مقام الدعاء، قال تعالى: {وَأَنَّهُ لَمَّا قَامَ عَبْدُ اللَّهِ يَدْعُوهُ كَادُوا يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَداً} [الجن:19] فالمقصود أن العبودية أشرف صفة يوصف بها إنسان؛ ولهذا وصف الله تعالى بها نبيه محمداً صلى الله عليه وسلم، وقد أدرك هذا المعنى القاضي عياض رحمه الله! فكان يقول: ومما زادني شرفاً وتيهاً وكدت بأخمصي أطأ الثريا دخولي تحت قولك يا عبادي وأن صيرت أحمد لي نبياً وقوله: {لِيَكُونَ} [الفرقان:1] هذا القرآن {لِلْعَالَمِينَ نَذِيراً} [الفرقان:1] ، والنذارة: هي الإخبار مع التحذير؛ بخلاف البشارة: فهي الإخبار بما يسر فقوله: نذيراً أي: محذراً لهم عقوبة المعصية والمخالفة فهذا معنى النذارة، والرسول صلى الله عليه وسلم بعث مبشراً ونذيرا، فالنذارة تكون أولى للعاصين، كما في قوله تعالى: {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجَا * قَيِّماً لِيُنْذِرَ بَأْساً شَدِيداً مِنْ لَدُنْهُ وَيُبَشِّرَ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْراً حَسَناً} [الكهف:1-2] فذكر النذارة للكافرين، وذكر البشارة للمؤمنين.

قوله تعالى: {الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَمْ يَتَّخِذْ وَلَداً وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيراً} [الفرقان:2] .

أي: أنه أحسن كل شيء خلقه فخلقه بقدر، وهذا له أكثر من معنى: المعنى الأول: أن كل ما خلقه الله سبحانه وتعالى فهو مكتوب مقدر عنده في اللوح المحفوظ، كما هو معروف في مراتب القضاء والقدر هذا من معاني قوله: {فَقَدَّرَه تَقْدِيراً} [الفرقان:2] .

المعنى الثاني: أن معنى قوله (قدره) أي: أحكمه وأتقنه وأحسنه، فجعله ملائماً مناسباً، كما في قوله: {الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ طِبَاقاً مَا تَرَى فِي خَلْقِ الرَّحْمَنِ مِنْ تَفَاوُتٍ فَارْجِعِ الْبَصَرَ هَلْ تَرَى مِنْ فُطُورٍ} [الملك:3] أي: هل ترى في السماء من شقوق؟ من صدوع؟ من نقص؟ {ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ يَنْقَلِبْ إِلَيْكَ الْبَصَرُ خَاسِئاً وَهُوَ حَسِيرٌ} [الملك:4] وقال سبحانه: {لَقَدْ خَلَقْنَا الْأِنْسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ} [التين:4] وقال: {يَا أَيُّهَا الْأِنْسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ * الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ} [الانفطار:6-7] فهو سبحانه أحسن كل شيء خلقه، كما قال عن نفسه: {الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ وَبَدَأَ خَلْقَ الْأِنْسَانِ مِنْ طِينٍ} [السجدة:7] فهذا هو المعنى الثاني من معاني قوله: {فَقَدَّرَه تَقْدِيراً} [الفرقان:2] .

طور بواسطة نورين ميديا © 2015