وهذه الآية فيها تسبيحه جل وعلا، والتسبيح -في أصل معناه-: هو التنزيه، فقوله: (يسبح لله) كقولك: سبحان الله وبحمده، سبحان الله العظيم، سبحان ربي الأعلى، أي: أنك تنزه الله تعالى وتطهره عن كل ما لا يليق بجلاله مما ادعاه عليه المشركون، كادعائهم أن له ولداً أو زوجة، أو أن له ولياً من الذل، أو أن له شريكاً في الملك أو أن فيه نقصاً بوجه من الوجوه فأنت تقول (سبحان الله) أي: أنك تعترف بتنزيه الله تعالى، أو أنك لا تؤمن إلا بالكمال المطلق لله جل وعلا؛ وتنفي عنه كل نقص.
ومع ذلك فإن الله سبحانه وتعالى يسبح له كل شيء كما قال الله تعالى: {يُسَبِّحُ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ} [التغابن:1] كل شيء؛ من الجمادات والحيوانات، والرطب واليابس، والصغير والكبير، والعاقل وغير العاقل؛ كلها تسبح فهذا الكون كله مهرجان يضج بالتسبيح لرب العالمين، ولو قدر لأذن أن تسمع لما سمعت إلا زجلاً لتعظيم ذي الجلال في كل ما تقع عليه العين في هذا الكون فالله تعالى يسبحه كل شيء ويعظمه كل شيء، قال تعالى: {تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَاوَاتُ السَّبْعُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ إِنَّهُ كَانَ حَلِيماً غَفُوراً} [الإسراء:44] وقال: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ وَالْجِبَالُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوُابُّ وَكَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ الْعَذَابُ} [الحج:18] إلا بعض عصاة بنى آدم، فإنهم تمردوا وأبوا أن يعظموا الجلال والإكرام سبحانه.
والتسبيح المذكور في هذه الآيات ونحوها على الراجح أنه تسبيح حقيقي، أي: أنها تسبح حقيقة لله عز وجل أما كيف تسبح، فهذا أمر لا ندري؛ لأن الله تعالى ما أطلعنا عليه، ولا كشف لنا من أمره؛ لكننا آمنا بما أخبرنا الله به من أن كل شيء في الكون يسبح بحمد الله سبحانه وتعالى، دون أن يفقه الناس تسبيحه أو يعلموا كيف يسبح؛ وجزء من ذلك بينه الله تعالى، أو بينه الرسول صلى الله عليه وسلم، فلقد ذكر الله تعالى عن داود عليه السلام {إِنَّا سَخَّرْنَا الْجِبَالَ مَعَهُ يُسَبِّحْنَ بِالْعَشِيِّ وَالْأِشْرَاقِ * وَالطَّيْرَ مَحْشُورَةً كُلٌّ لَهُ أَوَّابٌ} [ص:18-19] فكانت الجبال والطيور تسبِّح مع داود، فيسمع تسبيحها لله عز وجل.
ومنه حركة الكون: فإنها جزء من التسبيح والطاعة لله عز وجل فطلوع الشمس وحركتها وغروبها، واختلاف مراحل القمر؛ كل ذلك من التسبيح والطاعة لله عز وجل، كما ذكر النبي صلى الله عليه وسلم في حديث أبي ذر لما قال: {أتدري أين تذهب هذه الشمس؟ فقال: الله ورسوله أعلم! قال: فإنها تذهب فتسجد تحت العرش، وتستأذن في الطلوع، فيؤذن لها لا ينكر الناس من أمرها شيئاً، ويوشك أن تستأذن ولا يؤذن لها، ويقال لها: اطلعي من حيث غربت} أو كما قال صلى الله عليه وسلم فهذا جزء من سجودها وتسبيحها وطاعتها لله عز وجل.
فهاهنا قال: {يُسَبِّحُ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ} [التغابن:1] كل شيء! حتى ذرات التراب، وقطرات الماء، وأوراق الأشجار وحتى الدواب الصغيرة، كلها تسبح الله ولهذا من بديع ما ذكره لنا نبينا محمد صلى الله عليه وسلم عن الأنبياء السابقين: {أن نبياً نام تحت شجرة فقرصته نملة، فقام فأحرق بيت النمل كله، فأوحى الله تبارك وتعالى إليه أمن أجل نملة قرصتك؛ أهلكت أمة من الأمم تسبح الله تعالى} أي: أن المسألة ليست هينة! هذه القرية من النمل التي أحرقتها؛ قرية يسبحون الله كيف تهلكهم بدون سبب ولا ذنب؟ {هلا نملة واحدة؟} لو قتلت الواحدة التي قرصتك وتركت الباقي! فعاتبه الله عز وجل على ذلك.
فانظر كيف يربي الإسلام في نفس المؤمن النظر إلى هذا الكون، والتذكر بأن الكون كله يسبح لله عز وجل إذا كان الكفر يملك قوة وإمكانية وتقدماً في العلم والصناعة والحضارة والماديات وفي غيرها، فتذكر أن هذا الكون كله بما فيه ومن فيه -حتى مصنوعاتهم وحتى إمكانياتهم- فهي تسبح لله عز وجل وتنتظر أمره؛ فيكون عند المؤمن حينئذ من عظيم الثقة بالله والتوكل عليه ما ليس عند غيره.