وقد يترتب على هذا اللون من المحبة، أن يكره الواحد منهم ما يحبه الله, أو يحب ما يكرهه الله، أو يعترض على الله تعالى في شرعه, أو يعترض على الله تعالى في قضائه وقدره, كما كان أحدهم يتمنى حصول المعصية والفجور لا لنفسه فقط, بل لنفسه ولغيره من الناس، قال قائلهم: فيا ليت كل اثنين بينهما هوى من الناس والأنعام يلتقيان فيقضي حبيب من حبيب لبابة ويرعاهما ربي فلا يريان فانظر كيف تمنى أن يتاح الفساد, وأن تتاح الصلة بين كل عاشقين أو حبيبين على طاعة الله تعالى أو على معصيته، فلا يراهما أحد ولا يشي بهما أحد, وهذا محبة لما يبغضه الله تعالى، فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال كما في الصحيح: {ما خلا رجل بامرأة إلا كان الشيطان ثالثهما} .
ومثل ذلك أيضاً: التسخط من القضاء والقدر, كما قال أحدهم وقد حيل بينه وبين من يحب: قضاها لغيري وابتلاني بحبها فهلا بشيء غير ليلى ابتلانيا هذا اعترض على الله عز وجل، ومضادة له في حكمه القدري الكوني, وهو من عدم الرضا بالله تعالى رباً وقد قال النبي عليه الصلاة والسلام كما في صحيح مسلم من حديث سعد: {من رضي بالله رباً، وبالإسلام ديناً، وبمحمدٍ صلى الله عليه وسلم نبياً ورسولاً، وجبت له الجنة أو غفر له} .
ولذلك يقول محمد إقبال رحمه الله تعالى: لقد سئم الهوى في البيد قيس وملّ من الشكاية والعذاب يحاول أن يباح العشق حتى يرى ليلاه وهي بلا حجاب فلهذا قال الله تعالى عن الكافرين: {ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ اتَّبَعُوا مَا أَسْخَطَ اللَّهَ وَكَرِهُوا رِضْوَانَهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ} [محمد:28] فانظر كيف أصبح القلب هو المحور أو الدينمو أو الأصل الذي تنبثق منه كل الأمور، فأي قيمة لعبد ربما يعمل بعض الأعمال الظاهرة، لكنه يبغضها في قلبه؟! وربما يترك بعض المعاصي, ولكنه يحبها في قلبه ويتمناها ويفرح بحصولها، فإن ذلك -وإن كان العبد إذا أطاع الله تعالى فهو مأجور على كل حال- لكن هذا لا يزال يتمادى بالعبد حتى يفعل المعصية ويترك الطاعة.
ومثل هذا الإنسان الذي أحب ما كره الله, وكره ما أحب الله, من المقطوع به يقيناً أن جوارحه سوف تكون تبعاً لقلبه وما علقه من الحب لغير الله, أو من الخوف من مخلوق، الخوف من الناس، أو من مرض، أو من فقر، أو من موت، أن يخاف من سلطان أن يضره، أن يخاف من بعض رجال السلطان أو أعوانه أن يمسوه بسوء، ومثله -أيضاً- الطمع والرجاء في المخلوقين لتحصيل منفعة دنيوية بسببهم, أو علاوة أو وظيفة، أو دفع مفسدة عن نفسه أو أهله أو ماله, فإن القلب إذا تعلق بهذه الأشياء وتأله بها فإنه الملك، يملي على الجوارح ماذا يجب عليها أن تعمل، فتكون الجوارح تبعاً له، فإذا استعبد القلب بمثل هذه الأمور حباً أو خوفاً أو رجاءً، صارت الجوارح كلها تبعاً له, ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم، كما في المتفق عليه عن النعمان بن بشير: {ألا وإن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله, وإذا فسدت فسد الجسد كله, ألا وهي القلب} فالقلب يملي والجوارح تكتب.