لا غرابة أن تجد أن الرجل في الحالات التي يواجه فيها الصعوبات كثيراً ما يلتفت إلى المرأة، وهذا دليل على عمق مكانة المرأة في نفسية الرجل، وأضرب بعض الأمثلة السريعة التي توحي أن الرجل في أوقات الأزمات، في الشدة، في السجن، على حافة الموت، أول ما يبرز إلى ذهنه -أحياناً- صورة أمه، أو صورة زوجته، أو صورة بنته فيشعر بمشاعر كبيرة ويعبر عنها.
أ/ رجل في السجن يتذكر أمه: هذا رجل سجن في أحد سجون الطغاة، وطال سجنه، فكان أول ما تبادر إلى ذهنه وإلى مخيلته صورة أمه وهي تسفح الدموع حزناً على ولدها، فكتب إليها قصيدة من أروع القصائد يعبر فيها عن عمق مشاعره تجاهها: ألقيت بين يديك السيف والقلما لولا الإله لكنت البيت والحرما أنت الهنا والمنى أنت العنا وأنا على ثراك وليد قد نما وسما أماه أماه هذا اللحن يسحرني ويبعث العطر في جنبيّ مبتسما ما زال طيفك في دنياي يتبعني إنى سريت وقلبي يجحد النعما يقول تراقبينني وتلاحقينني في كل مكان، ولكنني لا أشعر بمكانتك وفضلك وقلبي يجحد النعما: حتى وقعت أسير البغى فانصرفت عني القلوب سوى قلب يسيل دماً قلب الأم هو الوحيد الذي ظل وفياً يبكي وحيداً على الولد: أصحو عليه وأغفو وهو يلثمني قلب ضعيف ويغزو الصحو والحلما ويدخل السجن منسلاً فيدهشني إذ يستبيح من الطغيان شر حمى فإن رآني في خير بكى فرحاً وإن رآني في سوء بكى ألما فلتغفري لي ذنبي يا معذبتي أو حاكميني وكوني الخصم والحكما فكانت صورة الأم هي أول ما برز في ذهن هذا الإنسان المعذب.
ب/ نموذج آخر: وهذا آخر أيضاً سجن فكانت القصيدة الوحيدة ربما التي جادت بها قريحته يخاطب فيها أمه ويصبرها ويثبتها: أماه لا تجزعي فالحافظ الله إنا سلكنا طريقاً قد خبرناه على حافية يا أماه مرقدنا ومن جماجمنا ترسو زواياه أماه إلى آخر القصيدة التي يطالبها فيها بالصبر والثبات: أماه لا تشعريهم أنهم غلبوا أماه لا تسمعيهم منك أواه أرضعتني بلبان العز في صغري لا شيء من سطوة الطاغوت أخشاه أماه رؤياك في قلبي مسطرة ونبع حبك أحيا في ثناياه ومر طيفك يا أماه يؤنسني إني وإن صفت القضبان ألقاه وثالث أيضاً قال قصيدة طويلة هذه المرة يخاطب فيها أباه: أبتاه ماذا قد يخط بناني والحبل والجلاد ينتظراني لكن ضمن هذه القصيدة كان من أبرع وأروع الأبيات قوله يخاطب أباه.
وإذا سمعت نشيج أمي في الدجى تبكي شباباً ضاع في الريعان وتكتم الحسرات في أعماقها ألماً تواريه عن الجيران فاطلب إليها الصفح عني إنني لا أبتغي منها سوى الغفران ما زال في سمعي رنين حديثها مقالها في رحمة وحنان أبني إني قد غدوت عليلة م يبق لي جلد على الأحزان فأذق فؤادي فرحة بالبحث عن بنت الحلال ودعك من عصياني كانت لها أمنية ريانة يا حسن آمال لها وأماني والآن لا أدري بأي جوانح ستبيت بعدي أم بأي جنان ج/ نموذج من الصحابة: ومن قبل كان أحد الصحابة رضي الله عنهم سجن في بلاد الشام في عهد النبي صلى الله عليه وسلم، ثم أراد الروم أن يصلبوه، فلما علقوه على عود الصلب، تذكر زوجته وكان مسلماً في عالم كافر آنذاك فقال: ألا هل أتى سلمى بأن حليلها على ماء عفرى فوق إحدى الرواحل على ناقة لم يطرق الفحل أمها مشذبة أطرافها بالمناجل يقول: ياليت من يخبر زوجتي بأنني الآن معلق على هذه الخشبة، أو مربوط إلى هذه الخشبة لأصلب وأقتل في سبيل الله تعالى صابراً محتسباً، فإذاً الرجل يتصور دائماً وأبداً صورة المرأة أماً وبنتاً وزوجةً في أحلك المواقف وأشدها، حتى عند الموت أول ما يبرز إلى ذهن الرجل ربما صورة بنياته الصغيرات اللاتي يخشى عليهن، ومن قبل كان الشاعر العربي يعتذر عن كثرة السفر والذهاب والإياب بالخوف على بنياته: لولا بنيات كزغب القطا رددن من بعض إلى بعض لكان لى مضطرب واسع في الأرض ذات الطول والعرض وإنما أولادنا بيننا أكبادنا تمشي على الأرض لوهبت الريح على بعضهم لامتنعت عيني عن الغمض وما ذلك إلا لما أحدثه الإسلام في نفسية الإنسان العربي والمسلم من الاهتمام بالمرأة والعناية بها، فهو لم يعتذر بأولاده الذكور، وإنما اعتذر ببنياته لأنهن أحوج إليه من الأولاد، فالأولاد قد يستطيعون أن يقوموا بالأعمال لأنفسهم بخلاف المرأة فهي محتاجة إلى دعم أبيها، أو أخيها، أو زوجها، أو غير ذلك.