إن كثرة التركيز على النقائص والعيوب، حتى لو كانت النقائص والعيوب موجودة فعلاً، ليس من المروءة في شيء، فكونك دائماً تنظر نظرة التنقص، وتنظر بالعين التي تبحث عن العيوب، هذه ليست من المروءة في شيء.
فمثلاً: كوني دائماً أركز على جانب أخطاء الناس، فكل درس أو محاضرة أو مجلس لي؛ عنايتي فيه أن الناس أخطأوا في كذا وكذا، هذا لا ينبغي فإن من الممكن أن أذكر أخطاء الناس، لكن أذكرها ضمن غيرها، فمثلاً إذا تكلمت عن أمر من أمور الشرع، أصَّلْتُه وذكرت ما فيه من النصوص، وفضائله وأحكامه، والطريقة الشرعية فيه، وأثنيت عن بعض الإيجابيات الموجودة عند الناس، ثم بعد ذلك أذكر بعض العيوب والأخطاء الموجودة في العمل أو في التطبيق، لأن هذا أدعى للقبول، وأحرى بالتأثير.
مثال ثانٍ: انتقاد الآخرين، وأن يكون دأبي وديدني في مجالسي وأسفاري ودروسي وقيامي وجلوسي، ومحاضراتي هو نقد فلان وعلان، وهذا أخطأ، وهذا زاد وهذا نقص، وهذا قال وهذا لم يقل، وهذا ارتفع وهذا انخفض، حتى لو فرض أنه بالحق؛ لما كان هذا سائغاً، فليس من الأسلوب أن أربِّي لى معرفة أهل البدع، ومعرفة البدع والرد عليها، بل الأسلوب أن أربي الناس على السنة، ومعرفة السنة وأهل السنة وتعظيمها، أما الكلام عن البدع وأهلها فيأتي تبعاً، ويشكل جزءاً أو محدداً من جهدي وعملي ونشاطي.
مثالٌ ثالث: النصيحة.
كونك دائماً تركز على النصيحة، فكلما لقيتني قدمت لي نصيحة، أنا أشكرك على نصيحتك، وأدعو لك بظهر الغيب أنك نصحتني، ولكن هل تعتقد أن كل النفوس تتحمل كثرة النصح؟ ثم ما هو السر في كون النصح دائماً وأبداً يأتي منك دون غيرك، وأنك لا تجيد إلا أسلوب الملاحظة؟ هي نصيحة.
ولكنها على شكل ملاحظة، فكثرة الملاحظات قد يوجد من أولي العزم وأولي الإيمان والصبر من يتحملها ويفرح بها ولكن ليس كل الناس من هذا القبيل، ولا كل الناس بهذا المعيار.
وعلى كل حال ربما يلاحظ أن كونك دائماً وأبداً تقدم الملاحظات بعد الملاحظات، فأنت اليوم تقدم لي ملاحظة على محاضرتي، وغداً تقدم لي ملاحظة على شخصيتي، وبعد غدٍ تقدم لي ملاحظة على أسرتي، وبعده تقدم لي ملاحظة على أسلوبي وهكذا، هذا دليل على أن عندك قوة لملاحظة العيوب، وأنك قد صرفت وركزت نظرك إليها، فأنا أدعوك على أن تنظر بعينين، عينٌ تدرك المحاسن وعينٌ تلاحظ العيوب، حتى يكون لديك اعتدال وتوسط في ذلك.
وأنت لو لاحظت منهج الرسول صلى الله عليه وسلم وهو القدوة والأسوة؛ لوجدت أنه تكلم في المناقب كثيراً، فأثنى على قبائل وبلاد وأمم وأشخاص كثيرين جداً، حتى إن ثناءه عليه الصلاة والسلام على هؤلاء، يجمع في مجلدات، {أبو بكر وعمر هما السمع والبصر} {أبو قتادة خير فرساننا} و {سلمة بن الأكوع خير رَجَالنا} و {عثمان تستحي منه الملائكة} و {علي يحبه الله ورسوله ويحب الله ورسوله} وسعد بن أبي وقاص، وطلحة بن عبيد الله، وعبد الرحمن بن عوف، وعبد الله بن سلام.
وأثنى صلى الله عليه وسلم على قبائل قريش، وعلى الأنصار، وعلى المهاجرين، حتى على أهل فارس حيث قال: {لو كان الإيمان بالثريا، لناله رجال من هؤلاء} فتجد ثناء الرسول صلى الله عليه وسلم كثيراً، لأن هذا الثناء أسلوبٌ تربويٌ مؤثرٌ وقوي، يثير كوامن الخير في نفس الإنسان، وفي نفس المجموعة، وفي نفس القبيلة، إذا كان ثناءً معتدلاً، ليس فيه مجاملة ولا تزلف ولا مبالغة ولا خروج على حدود الاعتدال.
أما المثالب فإنك تجد النبي صلى الله عليه وسلم كان يقتصد في ذكرها، وهي أحاديث ليست بالكثيرة، مثلاً: استأذن عليه رجل فقال: {ائذنوا له بئس أخو العشيرة، ثم قال صلى الله عليه وسلم بعد ذلك: إن من شر الناس، من ودعه الناس اتقاء فحشه} فذكر هذا الرجل بغير المناقب، بل ببعض المثالب الموجودة فيه، إلى أشخاص آخرين، ولم يكن هذا هو الأصل والقاعدة، وإنما كان هذا استثناءً في سيرته صلى الله عليه وسلم.
فالنظر للجوانب المظلمة دائماً، في أعمال الناس، في الأشخاص، في الأعمال الخيرية، الأعمال الدعوية، الأعمال الجهادية، الجماعات، الكتب، كل هذا ليس من المروءة في شيء.