أما النقطة الثانية فهي الأعمال المشروعة في تلك العشر: وفي العشر أعمال كثيرة مشروعة أذكر بعضاً منها، فمن هذه الأعمال المشروعة الذكر لله عز وجل، قال الله عز وجل: {لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ} [الحج:28] قال ابن عباس رضي الله عنه: [[الأيام المعلومات أيام العشر]] والأثر رواه البخاري تعليقاً عن ابن عباس، الأيام المعلومات أيام العشر أي عشرة ذي الحجة.
فقوله تعالى: {لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ} [الحج:28] هذا يشمل عدة أمور منها: ذكر الله تعالى على الذبائح من الأضاحي والهدي، فإنه يجب أن يسمي العبد ربه عليها، فيقول: باسم الله والله أكبر؛ يقول: باسم الله وجوباً، ويكبر استحباباً، وهذا ذكر، ولذلك قال تعالى: {وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ} [الحج:28] فهذا من الذكر المشروع، ويشمل الذكر غير هذا من التسبيح والتكبير والتهليل والتحميد، وغير ذلك من الدعاء وقراءة القرآن وغيرها، فكل ذلك مشروع في هذه العشر وفي غيرها، ويتأكد في العشر.
ولذلك جاء في الحديث الذي رواه الإمام أحمد عن ابن عمر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {ما من أيام أعظم عند الله تعالى ولا أحب إليه العمل فيهن من هذه العشر، فأكثروا فيهن من التحميد والتهليل والتكبير} قال المنذري: سنده جيد، وقال الهيثمي: رجاله رجال الصحيح.
والواقع أن في الحديث ضعفاً؛ فإن فيه يزيد بن أبي زياد، وهو إن خرج له مسلم إلا أنه ضعيف وفيه مقال، وكذلك الحديث فيه شيء من الاضطراب، فقد رواه الإمام أحمد من حديث يزيد بن أبي زياد عن مجاهد عن ابن عمر، ورواه الطبراني في معجمه الكبير، من حديث يزيد عن مجاهد عن ابن عباس، وقد وهم من اعتبر حديث ابن عباس شاهداً لحديث ابن عمر، بل هو مما يضعفه؛ لأن مدار الحديث على يزيد بن أبي زياد عن مجاهد، قال مرة: عن ابن عمر، وقال مرة: عن ابن عباس، فدل على أنه لم يضبط هذا الحديث.
فالحديث ضعيف، لكن له شواهد كثيرة عن ابن عباس في صحيح البخاري، وعن جابر عند أبي يعلى والبزار، وسوف يأتي الإشارة إليهما بعد قليل.
أ/ أنواع التكبير: من الأذكار الذي تستحب في العشر: التكبير (الله أكبر) ، وما أشبه ذلك من صيغ التكبير وهي كثيرة، فيستحب للعبد أن يكبر ويكثر من التكبير في أيام العشر، والتكبير في العشر نوعان:- النوع الأول: تكبير مطلق يشرع طيلة أيام العشر في كل وقت، ليلاً ونهاراً، في المنزل وفي السوق وفي المسجد، وفي كل مكان، فيشرع للمسلمين أن يكبروا ويرفعوا أصواتهم بالتكبير، ولهذا قال الإمام البخاري رحمه الله في صحيحه: [[كان أبو هريرة وابن عمر يخرجان إلى السوق فيكبران، ويكبر الناس بتكبيرهما، وكان عمر رضي الله عنه يكبر بمنى في قبته، فيسمعه أهل المسجد فيكبرون، فيكبر أهل منى حتى ترتج منى تكبيراً]] .
ففعل أبي هريرة وابن عمر وعمر؛ يدل على مشروعية التكبير في أيام العشر في كل وقت، ويدل أيضاً على مشروعية رفع الصوت بهذا التكبير، ولكن ليس على سبيل أن يكون التكبير بصوت واحد كما يفعله كثير من الناس، حيث يكبرون بصوت واحد تكبيراً جماعياً وبلحن واحد، هذا غير مشروع، إنما يكبر كل إنسان بمفرده، وتختلط الأصوات كما تختلط بقراءة القرآن في المساجد، وكما تختلط بالأذكار في أدبار الصلوات، إلى غير ذلك، فهذا تكبير مطلق.
النوع الثاني من التكبير: هو التكبير المقيد؛ وهو التكبير في أدبار الصلوات المكتوبات، أن يكبر الناس عقب كل صلاة مكتوبة، فيقولون: الله أكبر الله أكبر، لا إله إلا الله، والله أكبر الله أكبر ولله الحمد، إلى غير ذلك من صيغ التكبير، وهذا التكبير المقيد لم يثبت فيه حديث صحيح، جاء فيه حديث عند الدارقطني لكن سنده ضعيف جداً، وهو حديث منكر، لكن قال الإمام الحاكم: ثبت التكبير المقيد عن عمر وابن عمر وابن عباس وابن مسعود صح ذلك عنهم.
وجاء عند ابن أبي شيبة عن علي رضي الله عنه [[أنه كان يكبر بعد الفجر من يوم عرفة إلى عصر آخر أيام التشريق]] وسند هذا الأثر عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه صحيح، وكذلك روى ابن أبي شيبة في مصنفه بسند صحيح، عن أبي الأسود [[: أن ابن مسعود كان يكبر من صلاة الفجر يوم عرفة إلى عصر يوم النحر، يقول: الله أكبر الله أكبر لا إله إلا الله، والله أكبر الله أكبر ولله الحمد]] فابن مسعود كان يكبر إلى عصر يوم النحر، أما علي فإلى عصر آخر يوم من أيام التشريق.
وسند الأثرين عن علي وابن مسعود عند ابن أبي شيبة صحيح، وجاء هذا عن جماعة آخرين من الصحابة، مما يدل على أن هذا الأمر مشهور مشروع عندهم، فإذا انضم إلى ذلك ما هو معروف من ورود أحاديث عديدة في مشروعية التكبير في أدبار الصلوات، كما جاء في صحيح البخاري عن ابن عباس رضي الله عنه أنه قال: [[كان رفع الصوت بالذكر حين ينصرف الناس من المكتوبة على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، كنت أعلم إذا انصرفوا بذلك إذا سمعته]] وفي لفظ: [[ما كنا نعرف انقضاء صلاة النبي صلى الله عليه وسلم إلا بالتكبير]] علم أن التكبير مشروع في أدبار الصلوات، خاصة في هذه الأيام المحددة من صلاة الفجر يوم عرفة إلى عصر آخر أيام التشريق، أو إلى عصر يوم النحر.
كل ذلك حسن والأمر فيه واسع، والتكبير ذكر وما دام أنه قد ثبت عن بعض الصحابة، فلا حرج على الإنسان أن يلتزم بهذا التكبير المقيد في أدبار الصلوات المكتوبات، فهذا من الذكر الذي يستحب للإنسان أن يقوله.
ب/ صفة التكبير: أما صفة التكبير وكيف يكبر الإنسان: فمما ثبت عن ابن مسعود كما سبق: [[الله أكبر الله أكبر لا إله إلا الله، والله أكبر الله أكبر ولله الحمد]] وقال الإمام الشافعي: "إن زاد على هذا قوله: الله أكبر كبيراً، والحمد لله كثيراً، وسبحان الله بكرة وأصيلاً، لا إله إلا الله مخلصين له الدين ولو كره الكافرون، لا إله إلا الله وحده، صدق وعده، ونصر عبده، وهزم الأحزاب وحده؛ كان حسناً".
هذا كلام الإمام الشافعي رحمه الله كما نقله عنه الإمام ابن القيم في "زاد المعاد"، وإن زاد في ذلك أو اقتصر على أن يقول: الله أكبر الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر، فكل ذلك حسن ولا بأس به، فهذا الذكر من العمل المشروع في أيام العشر، وهو التكبير والذكر لله تبارك وتعالى، ومن ذلك المبادرة إلى الصلوات، وكثرة قراءة القرآن.