أما العمل الثاني المشروع فهو: العمل الصالح إجمالاً.
وهذا ثبت في حديث ابن عباس، كما في صحيح البخاري، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {ما من أيام العمل الصالح فيهن أحب إلى الله من هذه العشر.
قالوا: يا رسول الله! ولا الجهاد في سبيل الله؟ قال: ولا الجهاد في سبيل الله؛ إلا رجل خرج بنفسه وماله ثم لم يرجع من ذلك بشيء} وقد جاء عن جابر رضي الله عنه ما يشهد لهذا الحديث، فعند أبي يعلى والبزار بسند صحيح عن جابر نحو حديث ابن عباس، وفيه أن النبي صلى الله عليه وسلم ذكر أنه {لا يعادل العمل الصالح في العشر إلا رجل خرج بنفسه وماله في الجهاد، فخر صريعاً على وجهه في المعركة} فهذا الذي يعدل العمل الصالح في أيام العشر.
وقول النبي صلى الله عليه وسلم: {العمل الصالح} يشمل كل ما يحبه الله ويرضاه من الأعمال والأقوال الظاهرة والباطنة، فإن العمل الصالح هو ما كان خالصاً صواباً كما هو معروف، فما كان من الأعمال التي أمر الله تعالى بها في كتابه، أو أمر بها رسوله صلى الله عليه وسلم في سنته الصحيحة، من قول أو فعل أو اعتقاد؛ فهو من الأعمال الصالحة المحبوبة إلى الله تعالى في كل وقت، ويتأكد استحبابها في هذه العشر، فيدخل في ذلك الذكر كما سبق، ويدخل فيه التكبير مطلقاً ومقيداً، ويدخل فيه قراءة القرآن، ويدخل فيه الصيام.
أ/ الصيام: أما صيام يوم عرفة فهو مستحب لغير الحاج، كما ثبت في صحيح مسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم ذكر: {أن صيام يوم عرفة يكفر السنة التي قبله والسنة التي بعده} يكفر سنتين: السنة الماضية والسنة الآتية، هذا صيام يوم عرفة لغير الحاج، وهذا فضل عظيم لا أعلم أنه ثبت ليوم من الأيام التي يستحب صيامها إلا يوم عرفة؛ أنه يكفر سنة قبله وسنة بعده.
أما الحاج فلا يستحب له صيام هذا اليوم؛ لما ثبت في الصحيح: {أن الناس تماروا هل صام النبي صلى الله عليه وسلم يوم عرفة أم كان غير صائم؟ فبعثت أم الفضل إليه بلبن وهو على راحلته فشربه النبي صلى الله عليه وسلم} .
وهل يشرع صيام أيام العشر كلها؟ هذا فيه اختلاف، والأقرب أنه يشرع للإنسان صيام أيام العشر كلها؛ وذلك للحديث السابق: {ما من أيام العمل الصالح فيهن أحب إلى الله تعالى من هذه العشر} والصيام لا شك أنه من العمل الصالح.
ولا يعكر على ذلك ما ورد من النهي عن سرد الصوم، فإن المنهي عنه: أن يسرد الإنسان الصوم طيلة عمره، أما أن يصوم لمناسبات معينة فلا حرج في ذلك، ألا ترون أن النبي صلى الله عليه وسلم صح عنه أنه صام شعبان أكثره بل كله، ففي بعض السنين كان النبي صلى الله عليه وسلم يصوم شعبان كله، وكذلك أفضل الصيام بعد رمضان شهر الله المحرم، إذاً كون الإنسان يسرد صيام أيام العشر هذا مشروع ومستحب، وقد جاء في ذلك حديث عن حفصة، أو عن بعض أمهات المؤمنين عند أصحاب السنن، لكنه حديث فيه ضعف واضطراب فلا يحتج به.
أما ما جاء في صحيح مسلم عن عائشة رضي الله عنها، أنها قالت: [[ما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم صائماً في العشر قط]] فهذا لا يشكل، والجواب عن هذا الحديث من وجهين: الوجه الأول أن يقال: إن عدم معرفة عائشة رضي الله عنها بصيام النبي صلى الله عليه وسلم، لا يلزم منه ألا يكون صام، فإنه قد يخفى على الرجل أو المرأة من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم بعض سنته فلا يعلمها، كما نقل عن جماعه منهم عائشة أنها لم تكن تعلم أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يصلي الضحى، إلى غير ذلك من الأعمال وكان يفعلها، فلا غرابه أن ينكر الصحابي فعلاً عن النبي صلى الله عليه وسلم ويثبته آخرون، وإنما أنكر هذا الصحابي أن يكون بلغه ذلك أو اطلع عليه، وعدم علمه بالشيء ليس دليلاً على عدم حصوله؛ بمعنى أنه لا يبعد أن يكون النبي صلى الله عليه وسلم صام هذه العشر أو بعضها، ولم تطلع عائشة رضي الله عنها على ذلك؛ لسبب من الأسباب.
الجواب الثاني أن يقال -وهو في نظري أقوى-: إن مشروعية صيام أيام العشر تثبت ولو لم يفعله النبي صلى الله عليه وسلم، فإننا نعلم أن السنة تثبت بقول النبي صلى الله عليه وسلم كما تثبت بفعله، وكما تثبت بإقراره صلى الله عليه وسلم فإن ما أثر عن النبي صلى الله عليه وسلم، من قول أو فعل أو إقرار كله سنة، ولا يلزم أن يعمل النبي صلى الله عليه وسلم بالسنن كلها، فقد يترك النبي صلى الله عليه وسلم العمل وهو يحبه لعارض، قد يتركه لما هو أهم منه، من جهاد أو سفر أو شغل، وقد يتركه خشية أن يفرض على أمته، وقد يتركه خشية أن يشق على أصحابه، وقد يتركه لبيان الجواز، إلى غير ذلك من الأسباب.
إذاً: عدم صيام النبي صلى الله عليه وسلم أيام العشر، ليس دليلاً على عدم مشروعيتها، بل أيام العشر يستحب للإنسان أن يسرد صومها، إلا يوم العيد فإنه لا يجوز صيامه، فصيام يومي العيد: عيد الفطر وعيد الأضحى حرام كما هو معروف، وسبق تقريره في الوقفات الثلاثين من مطلع شهر رمضان، فصيام يوم العيد لا يجوز.
وكذلك صيام يوم عرفة للحاج مكروه، والأولى ألا يصوم، إنما صيام الأيام الثمانية مشروع، وصيام الأيام التسعة لغير الحاج مشروع أيضاً، ولذلك جاء في سنن أبي داود ذكر صيام التسع من ذي الحجة، في الحديث الذي أشرت إليه قبل قليل -حديث حفصة - جاء فيه بدلاً من العشر صيام التسع من ذي الحجة، ولذلك قال الإمام النووي رحمه الله في شرحه لصحيح مسلم: قال العلماء: صيام أيام العشر مستحب استحباباً شديداً.
والمقصود -بلا شك- خلا يوم العيد فإنه يحرم صومه.