الحج وفضله

العمل الثالث الذي يكون في أيام العشر هو: الحج.

فإن أيام العشر من مواقيت الحج الزمانية، قال الله عز وجل: {الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ} [البقرة:197] قال ابن عمر وغيره: [[أشهر الحج: شوال، وذو القعدة، وعشر من ذي الحجة]] .

والحج -أيها الإخوة- هو من أخص خصائص المسلمين وأبرز علاماتهم، حتى قال الله عز وجل: {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ} [آل عمران:97] وهذا إيماء وإشارة إلى أن ترك الحج من خصال الكافرين، وقد ذهب طائفة من السلف إلى أن من وجد سعة ولم يحج من غير عذر فإنه كافر، وقد جاء في أثر عن عمر رضي الله عنه أنه قال: [[لقد هممت أن أنظر وأبعث إلى عمالي فينظروا من وجد سعة فلم يحج؛ فيضربوا عليهم الجزية ما هم بمسلمين! ما هم بمسلمين]] وهذا الأثر رواه سعيد بن منصور في سننه، وقد جاء نحو هذا مرفوعاً إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وكأنه لا يصح.

أ/ فضل الحج: والحج من أعظم الكفارات، حتى إن الإنسان ليعجب ويطرب إذا قرأ الأحاديث الواردة في فضل الحج، وما فيها من عظيم تكفير الذنوب، خذ على سبيل المثال: ما رواه الشيخان عن أبي هريرة، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {من حج فلم يرفث ولم يفسق؛ خرج من ذنوبه كيوم ولدته أمه} وأيضاً في الصحيحين من حديث أبي هريرة رضي الله عنه: {أن رجلاً سأل النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله، أي العمل أفضل؟ قال: إيمان بالله ورسوله.

قال: ثم أي؟ قال: ثم الجهاد في سبيل الله.

قال: ثم أي؟ قال: حج مبرور} وفي المتفق عليه أيضاً من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {العمرة إلى العمرة كفارة لما بينهما، والحج المبرور ليس له جزاء إلا الجنة} وقد فسر النبي صلى الله عليه وسلم بر الحج بأنه: إطعام الطعام وطيب الكلام، وألا يرفث ولا يفسق.

كما ورد في الحديث الآخر: {من حج فلم يرفث ولم يفسق} وفي صحيح مسلم عن عمرو بن العاص رضي الله عنه [[أنه لما حضرته الوفاة بكى، وحول وجهه إلى الجدار يبكي، فقال له ابنه عبد الله بن عمرو رضي الله عنه: يا أبت، ما يبكيك؟! أما بشرك رسول الله صلى الله عليه وسلم بكذا، أما بشرك رسول الله صلى الله عليه وسلم بكذا، فما زال به حتى أقبل عليه بوجهه فقال رضي الله عنه وأرضاه: إني كنت على أطباق ثلاث: إني كنت في الجاهلية ولم يكن أحد أبغض إلي من رسول الله صلى الله عليه وسلم، حتى إني لو استمكنت منه لقتلته، قال: فلو مت على تلك الحالة لكنت من أهل النار.

قال: ثم قذف الله الإسلام في قلبي، فأتيت إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقلت له: يا رسول الله، ابسط يدك فلأبايعك.

قال: فبسط يده فقبضت يدي، فقال: {ما لك يا عمرو؟ قلت: يا رسول الله، أريد أن أشترط.

قال: تشترط ماذا؟ قلت: أشترط أن يغفر لي.

قال: بايع يا عمرو، أما علمت أن الإسلام يهدم ما كان قبله، وأن التوبة تهدم ما كان قبلها، وأن الحج يهدم ما كان قبله} قال: فبسطت يدي فبايعته صلى الله عليه وسلم، فجعل الله محبته في قلبي، حتى إني كنت ما أطيق أن أنظر إليه هيبة له وإجلالاً، فلو مت على تلك الحال؛ لرجوت أن أكون من أهل الجنة.

قال: ثم ولينا أشياء لا أدري ما حالي فيها أي: من أمر الخلافة والإمارة]] وما يتعلق بذلك المهم قوله عن النبي صلى الله عليه وسلم: {أن الحج يهدم ما كان قبله} والحديث كما أسلفت في صحيح مسلم.

فهذه الأحاديث وغيرها مما يدل على عظيم شأن الحج.

والمقام لا يتسع لسرد الأحاديث الواردة في هذا الباب، وفي تفاصيل أعمال الحج، ولذلك أنصح الإخوة بعد أن يرجعوا إلى بيوتهم؛ أن يقرءوا كتاب "المتجر الرابح في ثواب العمل الصالح" للإمام شرف الدين الدمياطي، يقرءوا فيه ما ورد في فضل الحج، فإن الإنسان ليعجب ويطول به العجب إذا قرأ هذه الأحاديث الواردة في فضل الحج، وأذكر منها حديثاً واحداً فقط، وهو ما رواه البزار وغيره، وصححه ابن حبان، وقال الدمياطي: إسناده لا بأس به، من حديث ابن عمر وله شاهد من حديث عبادة، قال ابن عمر: كنت مع النبي صلى الله عليه وسلم بمنى، فأتاه رجلان أنصاري وثقفي، فقالا: يا رسول الله، نريد أن نسألك.

فقال الرسول صلى الله عليه وسلم للثقفي: إن شئت أن تسألني، وإن شئت أخبرتك بما جئت تسأل عنه.

فقال: بل أخبرني يا رسول الله، قال: جئت تسألني عن مسيرك من بيتك تؤم البيت الحرام، وجئت تسألني عن ركعتيك بعد الطواف ما لك فيهما، وجئت تسألني عن طوافك بين الصفا والمروة ما لك فيه، وجئت تسألني عن رميك الجمار ما لك فيه، وجئت تسألني عن ذبحك ما لك فيه، وجئت تسألني عن وقوفك بعرفة مالك فيه، وجئت تسألني عن حلقك رأسك ما لك فيه، وجئت تسألني وجئت تسألني، حتى عدد النبي صلى الله عليه وسلم أعمال الحج، ثم ذكر ما فيها من الفضل، فذكر أنه إذا ركب راحلته إلى البيت الحرام، لم يرفع خفاً ولا يضع آخر إلا كان له بذلك أن يكتب الله تعالى له به حسنة ويضع عنه به خطيئة، ثم ذكر ركعتي الطواف وأنه كعتق رقبة، ثم ذكر طوافه بين الصفا والمروة وأنه كعتق سبعين رقبة، ثم ذكر رميه الجمار وأن كل رمية يمحو الله بها عنه كبيرة أو موبقة من الكبائر، ثم ذكر طوافه بالبيت وأنه يطوف لا ذنب له، يبعث الله تعالى ملكاً يضع يديه على كتفيه ويقول له: اعمل فيما يستقبل، فقد غفر لك ما مضى.

إلى غير لك من الفضائل العظيمة التي يعجب الإنسان منها، إلا أنه إذا تذكر أن هذا الفضل ممن يملك الفضل، ومن الوهاب التواب الذي يقول: {يا ابن آدم إنك ما دعوتني ورجوتني غفرت لك ولا أبالي، يا بن آدم، لو بلغت ذنوبك عنان السماء ثم لقيتني لا تشرك بي شيئاً؛ لأتيتك بقرابها مغفرة، أو لغفرت لك ولا أبالي} إلى غير ذلك من الأحاديث الواردة في سعة فضل الله تعالى، ولا شك أن هذا إنما يحصل لمن كان مخلصاً في حجه، وفي نفقته، وفي نيته، وفي عمله، متابعاً للرسول صلى الله عليه وسلم.

والغالب أن تكفير الأعمال إنما يكون للصغائر، أما الكبائر فإن جمهور أهل السنة، كما قال ابن عبد البر وغيره يقولون: إنها لا تكفر إلا بالتوبة، كما ورد في الحديث في صحيح مسلم {ما لم تغش كبيرة} وفي رواية: {ما لم تؤت كبيرة} فإن الكبائر في الأصل أنها لا تكفر إلا بالتوبة النصوح.

فينبغي أن تكون هذه النصوص العظيمة محركاً لهممنا وقلوبنا إلى حج بيت الله الحرام، وشتان شتان بين من اتخذ الحج عادة أو تجارة أو سياحة، وبين إنسان لم يكن في نيته أن يحج، فلما سمع هذه النصوص وقرأ الأحاديث الواردة في فضل الحج؛ تحركت همته فجدد عزيمته وأخلص نيته أنه سيحج، بسبب هذا الفضل الذي يتوقعه وينتظره، فإن هذا ممن يرجى أن ينال هذا الأجر العظيم من الله تعالى.

أيها الإخوة: الكلام عن مناسك الحج ليس هذا مجاله؛ ولذلك لن أذكر في موضوع المناسك شيئاً، وإنما أذكر الإخوة بأن ثمة كتباً كثيرة وأشرطة في موضوع المناسك، أذكر من أهمها: منسك شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله وهو مطبوع، كذلك المنسك للشيخ عبد العزيز بن باز والشيخ محمد بن عثيمين، والشيخ ناصر الدين الألباني له "حجة النبي صلى الله عليه وسلم"، وله كتاب آخر "مناسك الحج والعمرة"، وكل هذه الكتب كتب مفيدة ونافعة جداً، إضافة إلى مراجعة كتاب الحج في بعض كتب الفقه الموسعة كالمجموع، والمغني وغيرها، وكذلك حاشية ابن القاسم.

وعليه فلا حاجة إلى أن أدخل في موضوع المناسك؛ لأن الدخول فيها يطول، والأمر في ذلك لا يتسع له مثل هذا المقام.

طور بواسطة نورين ميديا © 2015