مأخذ رابع: قضية ردة الفعل غير المتزنة عند المسلمين.
وهي من آثار المفاجأة بالحدث، فإن الإنسان إذا فوجئ بشيء يتصرف -أحياناً- بصورة غير مدروسة؛ لأنه لا يدري ما هي الأسباب، ولا ما وراء الأحداث، فيندفع باتجاه الحدث، فيحقق هدفاً يراد منه أن يؤديه، مجرد دور يراد منه أن يصنعه، فيؤديه دون وعي منه بطبيعة الموقف.
مثال: عدوشرس مدجج، قوامة ثلاثة ملايين مقاتل مدرب، دخل بلداً إسلامياً واحتله بالقوة وهذا مثال تمثيلى خيالي وفي هذا البلد ألف من الشباب المتدين، لم يكن لهم من الأمر شيء، يُحكمون بغير ما أنزل الله، مضطهدون مضيقٌ عليهم، استسلم الناس لهذا الجيش الغازي كلهم، وحنوا رءوسهم للعاصفة حتى هدأت، وعادت المياه بعض الشيء إلى مجاريها، إلا هؤلاء الأشاوس، فقد قال قائلهم: علامَ نعطي الدنية في ديننا؟ هذا فلان لا نجوت إن نجا، هبي يا رياح الجنة.
وهكذا اقتحموا حتى قتلوا عن آخرهم، إنهم -إن شاء الله- شهداء، وكفاهم هذا فخراً وشرفاً، نسأل الله أن يكونوا كذلك -وهذا كما قلت لكم مثال- لكن ليس هذا طريق النصر للإسلام، لأننا تُعبدنا بالصبر كما تعبدنا بالجهاد، قال الله عز وجل: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ} [النساء:77] كان المؤمنون في مكة ضعفاء، ولذلك كانوا يؤمرون بالصبر، ويتحملون أذى المشركين وقتلهم واعتداءهم على أنفسهم وأموالهم وأعراضهم، ويتعبدون الله تعالى، لا يقفون مكتوفي الأيدى، يتعبدون الله تعالى بشيء اسمه الصبر، والصبر أيضاً هو قرين الإيمان، وليس الإيمان مجرد اندفاعات عاطفية هوجاء ليس لها زمام ولا خطام.
كان المسلم في مكة يقتل وإخوته صابرون، بل هذا إبراهيم عليه الصلاة والسلام كما في الصحيحين، لما دخل مصر وكانت معه زوجة جميلة حسناء، فأخبر بها الملك الجبار فدعا بها، يريد أن ينتهك عرضها ويعتدي عليها، ولم يكن لإبراهيم نبي الله تعالى صلى الله عليه وسلم حولٌ ولا قوة، إنما كان كل ما يملك أن يتجه إلى الله تعالى بالصلاة والدعاء، فلما دخلت على الجبار صَلَّت ودَعَت الله تعالى عليه، فقبضت يده، أصيبت يده بالشلل، فقال: ادعي الله لي ولا أضرك.
فدعت الله فأنفكت يده، ومرة أخرى وثالثة.
فقال لمن حوله: إنما جئتموني بشيطان ولم تأتوني بإنسان، ثم أخرجها من عنده وأعطاها هاجر، وجاءت إلى إبراهيم عليه الصلاة والسلام وهويصلي، فأشار إليها بيده ما الخبر؟ قالت: رد الله كيد الكافر في نحره، وذكرت أنه أعطاها هاجر.
المهم أن المؤمن قد يتعبد بالصبر، حين يكون ضعيفاً يدرك أنه لا حول له ولا قوة، والله تعالى يقول في محكم تنزيله: {فَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ صَابِرَةٌ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ أَلْفٌ يَغْلِبُوا أَلْفَيْنِ بِإِذْنِ اللَّهِ} [الأنفال:66] هذه آية ناسخة، والتي قبلها المنسوخة: {إن يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ يَغْلِبُوا أَلْفاً مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا} [الأنفال:65] لكنَّ المسلمين في كثيرٍ من البلاد التي يواجهون فيها قوة عاتية، حتى لا يبلغوا ولا إلى مستوى الآية المنسوخة، ليسوا (20%) ولا مائة بالألف من عدد الكفار، ومع ذلك تجد أنهم يندفعون بعواطف أكثر مما يندفعون بتفكير وتخطيط سليم.
علىكل حال تولد لدي قناعة شخصية من جراء مواجهتي لكثير من الشباب؛ أن المسلمين يمتلكون التضحية والبذل، أكثر مما يمتلكون التفكير السليم والنظر البعيد، ولوحدث التكامل بأن تضبط هذه التضحيات وفق نظر سليم وتفكير مستقبلي؛ لتحقق للإسلام والمسلمين خيرٌ كثير.
وهنا يأتي
Q إلى متى يظل المسلمون -عموماً- ورجال العلم والدعوة -خصوصاً- يلاحقون الأحداث ملاحقة ولا يسبقون الأحداث؟ إلى متى تسيرهم الأحداث ولا يسيرونها؟! إيضاح: لو اتجه المسلمون لخدمة الأمة وخدمة دينها في كل صعيد، التعليم والطب والتغذية والتصنيع والدعوة، … إلخ، واستمر الحال على ذلك -مثلاً- عشر سنوات أو خمس عشرة سنة؛ لوجدنا أن الأمة حققت خلال ذلك مستوى متقدماً من حيث القوة والصحة والتعليم والفهم والتدين، وهذا كله يصب في بحر خدمة الإسلام، ويدفعها نحوالنضج والعافية بإذن الله، وتستر بذلك إيمانها وثقتها بربها، ومعرفتها بنفسها، وتعود للحياة من جديد، لكننا مشغولون بالاندفاع وراء حماس، وهذا الحماس لا يشغلنا عنه إلا حماس لحدث جديد ننسى به الحدث الأول.
مثال: أفغانستان، التي سقيناها دماءنا وعرقنا وصحتنا وأموالنا ومهجنا وأرواحنا وشبابنا، ننساها الآن في حمى الاندفاع وراء حدث آخر نلاحقه، وهكذا لم نصنع في أفغانستان إلى الآن نصراً حقيقياً للإسلام، ولن نصنع في غيرها، وما ذلك إلا لأننا نتصرف على ضوء ردود الفعل.