يذكرون في الأمثال ما ذكره أبو حامد الغزالي ذكر قصة يقول: إن رجلاً خرج لقطع شجرة ومعه فأس، فلقيه الشيطان في الطريق، وقال له: إلى أين تذهب، قال: أذهب إلى شجرة كذا، شجرة تعبد من دون الله فأقطعها، قال: لا تستطيع، فأمسك الإنسان بالشيطان وهو لا يدرك؛ لأنه لا يدري أنه الشيطان، أمسك به حتى خنقه ثم طرحه أرضاً وقعد على صدره فقال: افعل ما شئت، فقام الرجل، ومضى في سبيله ليقطع هذه الشجرة، فعارضه الشيطان في موضع آخر، فقال: إلى أين تريد؟ قال: أريد أذهب إلى شجرة في مكان كذا وكذا تعبد من دون الله فأقطعها، قال: ألا أدلك على ما هو خير من ذلك؟ قال: وما هو، قال: أن تترك هذه الشجرة الآن؛ لأنك لو قطعتها الآن عبد الناس غيرها، وأنا أتكفل لك أن أضع تحت وسادتك كل يوم عشرين ديناراً، تأكل وتطعم المساكين، وأبناء السبيل، وتتصدق، وتنفق على نفسك وأولادك، ففكر الرجل فأعجبته الفكرة، وقال: حسناً، وعاد إلى بيته! نام الليلة الأولى فوجد تحت وسادته عشرين ديناراً، فأخذها وتصدق بها، وفي اليوم الثاني نظر تحت وسادته فوجد عشرة دنانير فأخذها، وفي اليوم الثالث وجد دينارين فأخذها، وفي اليوم الرابع لم يجد شيئاً، فأخذ فأسه ومشى في الطريق يريد أن يقطع هذه الشجرة، وغضبه هذه المرة من أجل الدينارين! فوقف له الشيطان وقال: إلى أين؟ قال: أريد هذه الشجرة أقطعها، فقال: هيهات، فأمسك به الشيطان وطرحه حتى كان بين يديه كالعصفور، فقال له الرجل: عجيب! أخبرني لماذا غلبتك أمس وغلبتني اليوم؟! قال: لأنك بالأمس خرجت غضباً لله فلم يقم لغضبك شيء، وأما اليوم فخرجت غضباً للدينارين فغلبتك.
فأنت تجد الكثير اليوم يتحملون الأذى ممن يدعونهم إذا كان أذى دينياً، مثل التقصير في أمر الدين، أو سماع الغناء، أو ارتكاب الفواحش، ويصبرون على المدعوين زمناً وهذا أمر حسن، ولا لوم، بل ينبغي أن يصبروا عليهم ويحلموا لعل الله تعالى أن يهديهم، لكن الواحد منهم لو أوذي في شخصه لغضب لنفسه غضباً.
وأنا أدعوكم إلى ملاحظة هذا في سلوككم، فقد رأيته عياناً في نفسي وفي غيري من الناس، ورأيت الكثيرين لا يغضبون غضباً شديداً إلا إذا نيل من أشخاصهم، أو تعرض لهم هذا المدعو بشيء يمسهم هم في ذاتهم، فإذا غضبوا لأنفسهم حشدوا بعد ذلك الأمور الدينية كلها، مع أنه غضب لنفسه، لكن تجد أنه يقول: يا أخي! هذا خبيث، وهذا لا يصلي، وقد يكون السبب أنه رآه لم يسلم عليه، أو لم يحترمه، أو ما أشبه ذلك، ففرق بين الغضب لله والغضب للنفس.
فالمقصود أن الرسول عليه الصلاة والسلام أوذي فصبر، وفي أشد المواقف التي تعرض فيها للسخرية من بني عبد ياليل حتى قال: أحدهم: أما وجد الله غيرك، يعني: ما لقي واحداً أحسن منك يبعثه، وقال آخر: أنا أمزق ثياب الكعبة إن كنت أنت مبعوث، وقال ثالث: ما ينبغي لي أن أكلمك إن كنت نبياً، فأنت أعظم من أن أكلمك، وإن كنت تكذب على الله، فأنت أهون من أن أكلمك، فما تركوا شيئاً إلا ألصقوه به، وخرج مهموماً -بأبي هو وأمي صلى الله عليه وسلم- ونيل منه ومع ذلك في هذا الموقف: (إن شئت أن أطبق عليهم الأخشبين) فيكون جوابه عليه الصلاة والسلام: {لعل الله أن يخرج من أصلابهم من يعبده لا يشرك به شيئا} أي: حتى لو ماتوا هم على الكفر، فربما يكون من ذراريهم من يعبد الله ويوحده، فهذا صبر الداعية، ولا غرابة أن يصبر هذا الصبر والله تعالى يقول له هنا: {فَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ} [ق:39] ويقول له: {نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَقُولُونَ} [طه:104] وفي الآية الأخرى: {وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا} [الطور:48] ما معنى قوله تعالى: (فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا) ؟ المعنى على مرأى منا، كما قال: {إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى} [طه:46] وقال: {تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا} [القمر:14] فقوله هنا: (نحن أعلم) هذا من أعظم أسباب التصبير فكل ما يقع فالله تعالى يعلمه، وأمضاه لحكمة.
{وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِجَبَّارٍ} [ق:45] فتجبرهم وتكرههم، لا تملك ذلك {فَلا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ} [فاطر:8] ففي ذلك دعوة للإنسان إلى ألا تذهب نفسه حسرات على المدعوين، بل ينبغي أن يدعوهم ويبذل وسعه ويصبر، ويعلم أن ذلك كله بعلم الله جل وعلا ورؤيته.