استغراق الكافر في واقعه

الوقفة الأولى: في قوله تعالى: {وَكَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ هُمْ أَشَدُّ مِنْهُمْ بَطْشاً فَنَقَّبُوا فِي الْبِلادِ هَلْ مِنْ مَحِيصٍ} [ق:36] فالله تعالى بعد أن أقام الحجة على كفار قريش بالأدلة العقلية والنقلية على ثبوت البعث وحصوله وإمكانه، ثم بيَّن لهم تفصيلاً ماذا يكون في البعث والنشور من الجزاء والحساب والمحادثة بين الإنسان وبين الملائكة وغير ذلك مما يدعم ذلك الإيمان ويقويه عقَّب بقوله: {وَكَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ} [ق:36] ففي هذه الوقفة إشارة إلى أن الكافر مستغرق في واقعه، لا يعنيه شيء بقدر ما يعنيه هذا الواقع، فإن أتيت إلى آماله وطموحاته وجدتها محصورة في واقعه؛ أن يأكل جيداً، ويلبس جيداً، ويشرب جيداً، ويركب جيداً، ويسكن جيداً، وهذا كل منتهى أمله، لأنه لا يفكر فيما وراء الحياة الدنيا.

وكذلك إن أتيت إلى نظراته وتفكيره وآرائه وجدتها مرهونة بواقعه، فإذا قلت له مثلاً: الحق وانتصار الحق وزوال الباطل، قال لك: دعنا من هذا الكلام، هذا كلام لا حقيقة له ولا قيمة، المهم ما نراه بأعيننا، وما نسمعه بآذاننا، فنحن نرى أن الباطل منتصر والحق مغلوب، وأنكم أنتم يا أهل الإيمان لا شأن لكم، ولا وزن لكم، ومن قبل كانوا يقولون للرسول عليه الصلاة والسلام كلاماً من هذا القبيل، فمثلاً ينظرون إلى الجانب المادي فيجدون الرسول صلى الله عليه وسلم عرياً من ذلك، لا مال ولا جاه -في أول الأمر- فيقولون منتقدين على الرسول عليه الصلاة والسلام: {لَوْلا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيراً * أَوْ يُلْقَى إِلَيْهِ كَنْزٌ أَوْ تَكُونُ لَهُ جَنَّةٌ يَأْكُلُ مِنْهَا} [الفرقان:8-9] أو ينظرون في كونه عليه الصلاة والسلام وحيداً فريداً أعزل ليس معه قوة، ولا سلاح، وليس له دولة في مكة فينكرون ذلك ويقولون: هذا إنسان فرد أعزل ليس معه قوة ولا سلطة، فلماذا نطيعه وهو مجرد رجل واحد ليس له وزن؟! هذا الكلام -أيضاً- قد يؤثر حتى في عقول، وقلوب بعض المسلمين، فإن من طبيعة الإنسان أن الواقع يؤثر عليه تأثيراً بليغاً.

أ/ حال الناس هذه الأيام: وقد تأملت أحوال أكثر الناس فوجدت أنهم مستغرقون في واقعهم، لا يتعدى تفكيرهم حدود هذا الواقع القريب المحدود في الزمان والمحدود في المكان، فلو نظرنا في واقعنا نحن الحاضرين -مثلاً- دعك عن الغائبين، لوجدنا أن الكثيرين منا لا يفكر إلا في حدود الناس الذين يراهم بعينه، أو يعايشهم في حياته، فإذا تكلم قال: الناس بخير، فمعنى ذلك أنه يصف أولئك الناس الذين يعايشهم، ويختلط بهم، وإذا قال ضد ذلك فهو يقصدهم -أيضاً- وإذا فكر تجد أنه يفكر في حدود منطقته، أو إقليمه، أو بلده، أو حتى حيه أحياناً، لكن القليل من الناس من يضيف في تفكيره بُعد الزمان، وبُعد المكان، فينظر مكاناً، فيجد أن خلق الله أعظم من ذلك، وإذا كان سكان بلدك الذي تعيش فيه ألف أو مليون، فسكان هذه الأرض أعداداً كبيرة، والمسلمون منهم يقدرون بألف مليون، وقد تجد في دولة واحدة مائة مليون، ومائتي مليون، فلماذا لا تضيف هذا الرقم إلى تفكيرك أيضاً؟ مثال: لو أن حاكماً طاغية سُلِطَ على مجموعة من المسلمين في بلد من البلدان؛ قد يكون عددهم عشرة ملايين، أو عشرين مليون؛ لوجدت أن كل إنسان ينظر إلى هذا ويتعجب، ويقول: كيف سُلِطَ عليهم وما أشبه ذلك!! ونسي أن هذا الحاكم مهما طغى واستبد؛ فإنه لا يتعدى حدود هؤلاء العشرين مليوناً، وأن غيرهم بمنجاة من ظلمه، وبطشه، ويستطيعون أن يتخلصوا من كيده ومكره، فلذلك إذا أضاف الإنسان عنصر المكان ووسع تفكيره، وجد أنه تغير نظره، فقد تفعل أنت شيئاً لا يرضي من حولك، ولكنه يرضي أضعاف أضعافهم ممن لا يراهم الإنسان بعينه، أو يسمعهم بأذنه، أو يحسهم بجوارحه، فلا يكون محط اهتمامه فقط هم من حوله؛ بل لا يكون أصل قضية رضاهم وسخطهم هي كل شيء عنده، فالمهم أن يرضى الله تعالى عنه.

كذلك مسألة الزمان: بأن تضع في اعتبارك الواقع الذي تعيشه الآن، لكن لماذا لا تفكر -أيضاً- في قرون وأجيال ذهبت؟! وقرون وأجيال سوف تأتي؟! الإنسان الذي يُفكِّر في حدود يومه فقط ينظر في المصلحة القريبة، وقد يفعل ما هو خطأ أو يترك ما هو صواب؛ لأنه يناسب يومه، لكن إذا فكَّر في أن هناك قرون وأجيال، وأنه هو حلقة ضمن سلسلة طويلة تغير تفكيره، فقد تجد أن هناك شيء لا يرضي من حولك في هذه الأيام، لكنه سيكون بالتأكيد له أثر عظيم في قرون وأجيال مستقبلة، فيزيد الإنسان قوة، ودائماً عَيْبَ الإنسان هو أنه يغرق في لحظته الحاضرة، وفي مكانه الحاضر، فهو مأسور بحدود الزمان وحدود المكان.

وكثيراً ما كان الكفار يحتجون على الرسل بالواقع، قد يقولون: أنت يا محمد -عليه الصلاة والسلام- الآن في مكة، أنت الآن تقول مبعوث للعالمين، أنت الآن في مكة لا تأمن على نفسك، أو في المدينة وليس لك أتباع، وليس لك قوة، وليس وليس فتجدهم يحتجون عليه بالزمان وبالمكان، لكن ينسون أن الزمان يتغير، والمكان يتسع، فلهذا ذكر الله سبحانه وتعالى في هذه الآية جانباً يتعلق بهذين الأمرين، فقال: {وَكَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ هُمْ أَشَدُّ مِنْهُمْ بَطْشاً فَنَقَّبُوا فِي الْبِلادِ هَلْ مِنْ مَحِيصٍ} [ق:36] أي: لماذا ينظر كفار قريش فقط إلى واقعهم الآن؟! وإلى أن الله تعالى قد أمهلهم؟! وحلم عليهم فلم يعاجلهم بالعقوبة؟! ألا ينظرون إلى أزمنة ممتدة طويلة من قبلهم! فيها أناس مثلهم كذبوا فأهلكهم الله تعالى ولم يبق منهم باقية، ولم يكن لهم مهرب ولا ملجأ من عقوبة الله تعالى لهم! فلو فكروا في هذا لاعتبروا، أو فكروا في الزمان القادم -أيضاً- والأيام المقبلة تفكيراً سليماً لاعتبروا.

ب/ أبو طالب عم رسول الله: انظر مثلاً: أبو طالب حيث كان يحب النبي صلى الله عليه وسلم -كما هو معروف- ويعظمه ويجله، وله في ذلك أقوال مشهورة مثلما هو معروف في قصيدته: ولقد علمتُ بأن دين محمد من خير أديان البرية دينا لولا الملامة أو حذار مسبة لوجدتني سمحاً بذاك مبينا وصدقتني وعلمت أنك ناصحي ولقد بررت وكنت قبل أمينا ويقول أيضاً: لقد علموا أن ابننا لا مكذب لدينا ولا يعنى بقول الأباطل فو الله لولا أن أجيء بسبة تجر على أشياخنا في المحافل لكنا اتبعناه على كل حالة من الدهر حقاً غير قول التهازل إذاً السؤال ما هو السبب الذي كان يمنع أبو طالب من الإسلام؟ أبو طالب مجرد مثال لأعداء غفيرة من الناس، وليس هو الوحيد، لماذا امتنع أبو طالب عن الإسلام، مع أنه مؤمن ومصدق، وكان يحب أن يفرح قلب النبي صلى الله عليه وسلم، لماذا لم يسلم؟! لأنه كان يراعي حال قومه في الزمان والمكان، ففي مكة كان إسلام أبي طالب سبباً لأن يُسب أبا طالب، ويعاب، ويعير، وينتقص، وهو من شيوخ قريش، فيقال: إن أبا طالب على كبر سنه وجلالة قدره وجاهه، يذهب حتى يتبع ولداً من أولاده، ويصدقه، ويوافقه، ويطيعه فيما يأمر، وفيما ينهى، فكان يرى في حدود المحيط الذي يعيش فيه شيئاً من العار والعيب والمسبة، فتثاقلت نفسه عن الاستجابة لدعوة الرسول عليه الصلاة والسلام، لأنه لا يرى حوله ما يشجع على هذا.

كذلك بالنسبة للزمان: يتوقع أبو طالب لأنه حكم على الغائب حكمه على الحاضر أي: قاس الغائب على الحاضر، فتوصل إلى أن القضية ستستمر، وبالتالي أبو طالب سيكون في المستقبل لو أسلم مسبة تجر على أشياخه في المحافل، ونسي أبو طالب أنه كان بذلك أسيراً لحدود زمانه ومكانه، ولو أنه انعتق من هذه القيود لأدرك شيئاً آخر؛ لأدرك أن إسلامه هو الخير له في الدنيا قبل الآخرة، فلو أسلم أبو طالب لكان أهل التوحيد، وأهل الإسلام عبر هذه القرون الطويلة التي مضت -الآن أربعة عشر قرناً- كلهم كانوا يحبونه ويمدحونه، ويدعون له، ويثنون عليه، أما الآن فلا يجرؤ مسلم على مدى هذه الأزمنة المتطاولة، أن يقول عن أبي طالب: رحمه الله! أو غفر الله له، لأنه مشرك، ولأن الله تعالى يقول في حق أبي طالب أولاً، وحق من مثله ثانياً: {مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُولِي قُرْبَى مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ} [التوبة:113] إلى آخر الآيات.

إذاً حسابات أبي طالب كانت صحيحة خاطئة قطعاً، فلو أسلم لكانت مديحة تعلن في المحافل، والمجالس في هذا الوقت، لكن الله تعالى غالب على أمره: {إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ} [القصص:56] فها أنت ترى الكافر محدوداً بحدود الزمان، فينظر فيمن حوله، وحدود المكان، فينظر في الناس الذين يحيطون به، وهذا ليس خاصاً بالكافر فقط؛ بل حتى المسلم قصير النظر تجده محدود بهذه الأشياء، فهو قد يعمل عمل الخير، لكن في حدود الناس الذين حوله، ولا يُفكِّر في الأفق الأبعد، ولا يفكر في الزمان، والمكان.

جـ/ شيخ الإسلام ابن تيمية: شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله-: هو نموذج للعالم المجدد الذي تجاوز حدود الزمان، وحدود المكان؛ يفكر تفكيراً أوسع من الرقعة التي يعيش فيها، أو الفترة التي يعيش فيها، فلم يأبه ابن تيمية بأن يخالف بعض فقهاء عصره، ممن كانوا على غير الصراط المستقيم، ولم يأبه ابن تيمية أن تُصدر ضده الفتاوى، ولم يأبه ابن تيمية أن يودع في غياهب السجون، أو يمنع من التدريس، أو يحال بينه وبين طلابه، أو حتى يُضرب، أو يُؤذى، أو تُحرق كتبه، أو يُمنع من التدريس والفتوى، أو يسجن، مع أن هذه الأشياء لو نظر الإنسان إليها بالمقياس القريب ربما تغير في النظرة، فالواحد منا يستحي -أحي

طور بواسطة نورين ميديا © 2015