ثم ينتقل إلى الأمر الثالث الذي هو موضوع السورة أصلاً، وهو أمر البعث، لهذا قال: {وَنُفِخَ فِي الصُّورِ ذَلِكَ يَوْمُ الْوَعِيدِ} [ق:20] ثم بدأ في التفصيل لأن هذا هو الموضوع الأساسي: {وَجَاءَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَعَهَا سَائِقٌ وَشَهِيدٌ} [ق:21] من الملائكة: {لَقَدْ كُنْتَ فِي غَفْلَةٍ مِنْ هَذَا فَكَشَفْنَا عَنْكَ غِطَاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ} [ق:22] كشف الغطاء يبدأ من الموت، فعند الموت ينكشف شيء من الغطاء، فالإنسان إذا عاين الملائكة ورآهم قد تنزلوا أدرك حينئذ؛ لكن بعد فوات الأوان، ولهذا تجد أن الإنسان في الدنيا إذا تذكَّر الموت وصحَّ تذكره صار عنده شعور فيقول: يا ليتني لم أفعل كذا، ولم أفعل كذا، لكن إذا غفل انطلق مع الحرام ومع الشهوة، ومع ما لا يرضي الله عز وجل، فإذا عاين الموت حقيقة، كان الأمر أعظم بالنسبة له، فإذا كان يوم القيامة انكشف له حينئذٍ كل شيء، ولهذا حتى الكفار يقولون: {وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ} [الأنعام:23] و {يَا لَيْتَنَا نُرَدُّ وَلا نُكَذِّبَ بِآيَاتِ رَبِّنَا} [الأنعام:27] فالمقصود أن الأمر انكشف لهم، فلهذا قال: {لَقَدْ كُنْتَ فِي غَفْلَةٍ مِنْ هَذَا فَكَشَفْنَا عَنْكَ غِطَاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ} [ق:22] قوله: حديد أي: شديد، أو بعبارة أخرى: قوي حاد ينفذ، فأصبحت ترى ما لم تكن ترى، وتسمع ما لم تكن تسمع.
ثم يقول: {بِالْحَقِّ} [ق:19] وفي ذلك دليل على أن الموت والاحتضار يبين للإنسان فيه بعض ما كان غائباً عنه، ويصدق ما كان مكذباً به، فسكرة الموت جاءت بالحق فكشفت للإنسان الحق، فالمكذب صدق، والكافر آمن، لكن لا ينفعه ذلك، والدليل على أنه لا ينفعه ذلك قول النبي صلى الله عليه وسلم: {إن الله يقبل توبة العبد ما لم يغرغر} والدليل الثاني أيضاً من الحديث: {ولا تمهل حتى إذا بلغت الحلقوم يعني الروح قلت لفلان كذا، ولفلان كذا} .
أيضاً من الأدلة: {وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ إِنِّي تُبْتُ الْآنَ} [النساء:18] فإذا عاين الإنسان الملائكة فقد جاء الحق، لكن بسكرة الموت التي لا يقبل معها عمل، لأنه تحوّل حينئذٍ من إيمان بالغيب إلى إيمان بالشهادة، فقد رأى وعاين: {ذَلِكَ مَا كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ} [ق:19] تهرب عنه لكنه يلحقك، ولذلك تجدنا نكره حتى ذكر الموت، ولا نريد أن يكدر علينا، ولكن هذا لا يغير من الواقع شيئاً، فهذا هو الأمر الثاني وهو أمر النقلة من دار الدنيا إلى دار الآخرة، والإشارة إلى الموت تتضمن الإشارة إلى حياة البرزخ في القبور حيث الفتنة والسؤال عن الدين، وعن الرب، وعن الرسول عليه الصلاة والسلام، وحيث النعيم أو العذاب في القبر.