وقوله: {كَذَلِكَ الْخُرُوجُ} [ق:11] يدل على أمرين: الأول منهما: إثبات البعث، فيكون هذا من باب القياس، قياس الأمر الخفي المستقبل الذي لم يحدث على الأمر الظاهر الواقع الحادث الآن، فقاس أمر البعث الأخروي على هذا الأمر المشاهد بحياة الأرض بعد موتها.
الأمر الثاني: بيان صفة البعث يوم القيامة، وقد فصَّله النبي صلى الله عليه وسلم في {أن الله تعالى ينزل من السماء ماءً، فينبت الناس منه، ثم ينفخ في الصور، فتطير الأرواح إلى أجسادها} فيكون قوله أيضاً: {كَذَلِكَ الْخُرُوجُ} [ق:11] يعني من حيث الصفة.
فهذه ثلاثة أدلة: السماء، والأرض، والمطر النازل من السماء للأرض، وهي أدلة متقاربة، فالدليل الأول يوجه أنظارهم إلى السماء فوقهم، والدليل الثاني يوجه أنظارهم إلى الأرض تحتهم، والدليل الثالث يذكر أمراً متراوحاً بين السماء والأرض، وهو المطر الذي ينزل من السماء فتحيا به الأرض بعد موتها، وهذا الدليل يذكره الله كثيراً؛ وأنه حجة على البعث وهو دليل واضح، وإنما ذكره الله عز وجل لأنه مما لم يكن للإنسان فيه يد، فالله تعالى هو الذي يرسل الرياح فتثير سحاباً، وهو الذي يبسطه في السماء كيف يشاء، وهو الذي ينزل المطر، وينزل الغيث من بعد ما قنطوا، وهو الذي ينبت الأرض دون أن يضع الإنسان فيها الحب، والزرع، والبذر، فهي أعجوبة كبيرة وإن كانت مألوفة للناس، وكونهم ألفوها قد يقلل من وقعها عليهم.
ولهذا تجد الناس إذا جاء وقت الربيع واخضرت الأرض، يمشون في مسافات بعيدة وطويلة خضراء، فيتعجبون من خضرة الأرض فقط، وهو أمر عادي عندهم، وقد يأتون إلى مدن وقرى ودول خضراء طول العام، فيمرون عليها وهم عنها معرضون، لكن لو جاء أحدهم للأرض في وقت الخريف، وقد يبست الأشجار، ثم وجد في وسط هذا الهشيم اليابس شجرة خضراء تهتز، تعجَّب واندهش وقال: سبحان الله! ما أعظم قدرة الله! فأدرك القدرة بهذه الشجرة لأنها مخالفة لمألوفه، أكثر مما أدرك القدرة بحياة الأرض كلها في وقت الربيع والخضرة، لأن هذا أمر مألوف عنده، وهذا من غفلة الإنسان التي تحتاج إلى إيقاظ، ولذلك تجدون الإنسان الذي يتعامل مع الأرض أحسن وأصدق إيماناً، وأقرب للفطرة من الإنسان الذي يتعامل مع بعض ما صنعه الناس، فالغالب أن الفلاح والمزارع أصدق إيماناً، وأسلم وأقرب للفطرة من الصانع، لأن المزارع يتعامل مع خلق الله تعالى مباشرة، فهو يلاحظ نزول المطر، ويلاحظ انشقاق الحبة عن النبات، وانفراج الأرض عنها، ويلحظ في ذلك القدرة الإلهية: {صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ} [النمل:88] فيكون في قلبه تعظيم لله عز وجل ومحبة، خاصة إذا اهتدى بهداية السماء، أما الصانع فهو يتعامل مع الأدلة التي هي من صناعة أخيه الإنسان، فبينه وبين التعامل مع ما يلاحظ فيه قدرة الله تعالى واسطة أو وسائط أحياناً تزيده بعداً عن الله، لأنه ينظر في هذه الأدلة فيرى فيها شيئاً عجيباً من الصنع، وهذا الصنع من عمل يد أخيه الإنسان، فتجده يتحول إعجابه إلى إعجاب بالإنسان الذي صنع هذه الآلة مثلاً، وقوة عقله وحدة ذهنه، وما أشبه ذلك لأنه يتعامل معها مباشرة، ولو أنه كان أكثر ذكاء ولو بدرجة، لتذكر أن هذه الحدة في ذهن الإنسان، وهذه القوة والذكاء حصل له من الله، فرجعت القضية إلى صنع الله الذي أتقن كل شيء، لكنها في الحالة الأولى حالة الزرع مباشرة، وفي الحالة الثانية في حالة الصناعة غير مباشرة.