فالمقصود أن العرب كانوا أهل زرع وحرث، فكانوا يفقهون مثل هذه المعاني، ومع ذلك أصروا على ما هم عليه من الكفر ولم يؤمنوا، ومن عادة الإنسان أنه ينهمك أحياناً في الواقع المحيط القريب منه، فيتخيل الدنيا كلها من خلال الأوضاع التي تحيط به، فإذا أحاط بالإنسان جو معين أصبح هذا الجو يؤثر في نظراته وتصرفاته، -فمثلاً- أهل مكة -جاءتهم الرسالة- فإذا نظروا خاصة في العهد المكي وجدوا أن أكثرهم كافرون بالبعث غير مصدقين بما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم، ثم نظروا إلى أهل المدينة وأهل الطائف والعرب في الجزيرة العربية، فإذا أكثرهم إن لم يكن كلهم على الشاكلة والطريقة نفسها، فلذلك أعطاهم هذا نوعاً من الإصرار على حرب الرسول عليه الصلاة والسلام، بل الضراوة في حربه عليه الصلاة والسلام؛ لأنهم يقولون: أنت أتيت بشيء لا يوافقك عليه أحد.
نأتي لليهود والنصارى، اليهود والنصارى يؤمنون بالبعث، فيلتمسون أسباب خلاف بين الرسول عليه الصلاة السلام وبين ما كان عليه أهل الكتاب، ولهذا قالوا: {أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلَهاً وَاحِداً إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ * مَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي الْمِلَّةِ الْآخِرَةِ إِنْ هَذَا إِلَّا اخْتِلاقٌ} [ص:6-7] .
ويقصدون بالملة الأخرى النصرانية ففي مثل هذا الجو يوحون للسذج والعوام أن هذا لا يهمكم في شيء، هذا رجل يأتي بأمور غريبة والدنيا كلها ضده، والعالم كله يرفض هذه الأشياء التي يقولها، وقد أتى بشيء خالفنا ولم يوافق فيه أهل الكتاب، فلذلك هذا موضوع سينتهي قريباً، وهذه البلبلة الحادثة من جراء ظهور الدعوة في مكة سوف تحسم، وينتهي أمر الدعوة، وينتهي أمر الرسول عليه الصلاة والسلام في زعمهم، فالله عز وجل ينقلهم وينقل المؤمنين الذين قد يؤثر فيهم هذا الكلام أيضاً إذا سمعوه، خاصة الذين يكون إيمانهم قريباً -حدثاء العهد بالإيمان- ينقلهم إلى ميدان أوسع وأرحب من مجرد التفكير في مكة وما حولها، أو حتى في العالم الموجود آنذاك، وأنه عالم كافر، ينقلهم إلى التاريخ، فقال: {كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَأَصْحَابُ الرَّسِّ وَثَمُودُ * وَعَادٌ وَفِرْعَوْنُ وَإِخْوَانُ لُوطٍ * وَأَصْحَابُ الْأَيْكَةِ وَقَوْمُ تُبَّعٍ} [ق:12-14] وهذه ثمان حالات يُذكِّر الله تعالى بها {كُلٌّ كَذَّبَ الرُّسُلَ فَحَقَّ وَعِيدِ} [ق:14] أي: أن السنة جارية، فالذي جرى على قوم نوح وأصحاب الرس وثمود وغيرهم يجرى على كل المكذبين، ولهذا قال: {فَحَقَّ وَعِيدِ} [ق:14] أي: حق وعيدي على هؤلاء المكذبين بالعقوبة الدنيوية والأخروية، والوعيد حاصل ولو تغيرت صورته، فإن الله تعالى دفع عن هذه الأمة عذاب الاستئصال الذي أهلك به أمماً من أمم الأنبياء السابقين لكفرها وتكذيبها.