المذهبية

Q هل يأخذ المسلم الحكم من أي مذهب شاء أم يلزمه اتباع مذهب معروف ومعين أو واحد عند الحاجة؟ ويقول: إن المذاهب لا تحصر في أربعة مذاهب -كما نراها معروفة- لكن هناك آراء لبعض الأئمة ممن لم تنتشر مذاهبهم، فهل نتبع بعضها إن وجدنا عندهم الدليل الصحيح أم لا؟

صلى الله عليه وسلم بالنسبة للأئمة الأربعة وغير الأربعة: نعم الأئمة ليسوا أربعة، وأذكر أحد الإخوة يحدثني أنه صلى في مسجد جمعة إلى جوار رجل، فرأى هذا الرجل يعمل في صلاته عملاً استغربه، أظنه كان يرسل يديه في الصلاة ولا يضم، أي لا يضع إحداهما على الأخرى، فلما سلم من الصلاة سلم عليه، وجلس يتحدث معه بأسلوب هادئ وبعيدٍ عن الإنكار، إنما حادثه عن وضع اليدين في الصلاة، وأن السنة وضع اليد اليمنى على اليسرى في الصلاة، فلما قلت له ذلك، قال: ليست المذاهب أربعة -كما تزعم وما زعم الأخ شيئاً- ولا ذكر شيئاً من المذاهب الأربعة، لكن الآخر قال له: ليست المذاهب أربعة كما تزعم- وإنما هي عشرة.

وأقول أيضاً: المذاهب ليست عشرة كما يزعم؛ وإنما هي أكثر من ذلك بكثير، فهناك أئمة متبوعون كثيرون، هناك فقهاء المدينة السبعة، هناك فقهاء في العراق، هناك فقهاء في الشام، وفي مصر، لكن غالب مذاهبهم اندرست أو كادت، بحيث لا يكاد يوجد من يقول بها إلا قلة؛ فمثلاً: الأوزاعي يوجد من يقول بمذهبه خاصة في الشام وكان إمام أهل الشام؛ وهم قلة.

وكذلك يوجد في بعض مناطق المملكة من يتمذهبون بمذهب الأوزاعي، وكذلك الإمام ابن جرير الطبري يوجد من يدين بمذهبه، وكانوا يسمون في التاريخ بالجريرين -نسبة إلى ابن جرير - وكثير من العلماء كانوا متبوعين ثم اندرست مذاهبهم.

والسؤال: هل الحق محصور في هذه المذاهب الأربعة، أو في أحدها؟ أبداً ليس الحق محصوراً في واحد من المذاهب الأربعة، ولو قال إنسان: إن مذهب الإمام مالك كله حق وما عداه باطل، أو مذهب الشافعي أو مذهب أحمد أو أبي حنيفة، لكان في ذلك مخطئاً -بلا خلاف عند أهل العلم- فالحق ليس محصوراً في مذهب واحد، لكن هؤلاء العلماء كلهم اجتهدوا وكما قال الشاعر: وكلهم من رسول الله ملتمس غرفاً من البحر أو رشفاً من الديم وهم يحاولون أن يقتبسوا ويلتمسوا من رسول الله صلى الله عليه وسلم، فيكون الحق في مسألة عند واحد وفي مسألة أخرى عند غيره.

فليس الحق محصوراً في أحد هذه المذاهب، بل وليس بالضرورة في أحد المذاهب الأربعة فقط، قد يخرج الحق عنها، فليس هناك نص شرعي يدل على منع ذلك.

لكن من واقع تجربتي القصيرة في موضوع البحث في مسائل فقهية، وتجربتي مع بعض الشباب الذين يتحدثون في قضايا شرعية، تكون لدي قناعة، هي أن الشاب وطالب العلم ينبغي أن يحرص على الاعتصام بمذهب الجمهور، إلا في المسائل التي دليلها شديد الظهور، فغالباً رأي الجمهور هو الصواب، والجمهور ليس شخصاً بعينه أو جهة بعينها، فأحياناً الجمهور -مثلاً- مالك وأبو حنيفة والشافعي، وأحياناً يكون الجمهور أحمد وإسحاق وأبو حنيفة ومالك، المهم الأكثرية -أكثرية العلماء- وذلك إذا كنا نعرف أن العلماء يعتبرون الإجماع حجة شرعية.

وبالمقابل -كما أسلفت قبل قليل- الشذوذ: انفراد واحد برأي، يعتبرونه رأياً منطرحاً متروكاً.

إذاً: إذا كان الأغلبية من غير المعقول أن نقول سواء أغلبية أو غير أغلبية أن الأمر سيان في ذلك، فالغالب أن أكثرية العلماء يكونون على الصواب، لكن لا يمنع الإنسان من النظر في الأدلة، حتى يكون اتباعه لرأي الجمهور على بينة وبصيرة ودليل.

لكن نقول: تقليده للجمهور أولى من تقليده لرجل واحد -مثلاً- كما أن الإنسان أحياناً قد يجد أن هناك رأياً مخالفاً للجمهور ومع ذلك رجحانه ظاهر، ولعلي أضرب مثالاً في هذا.

مسألة الخمر هل هي نجسة أم طاهرة؟ طبعاً موضوع تحريم الخمر فيه حكم بنص القرآن الكريم: {رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ} [المائدة:90] ولا خلاف في موضوع تحريم الخمر، أما الكلام في نجاسة الخمر إذا أصاب ثوب الإنسان، هل هي نجسة أم طاهرة؟ الجمهور والأئمة الأربعة أيضاً، على أن الخمر نجسة، لكن هناك قولاً آخر لـ ربيعة بن عبد الرحمن شيخ مالك وللمزني تلميذ الإمام الشافعي ولكثير من فقهاء الشافعية البغداديين والقرويين وغيرهم، ولجماعة من الأئمة المتقدمين، ولجماعة من الأئمة المعاصرين كالشيخ محمد رشيد رضا وغيره، أن الخمر طاهر بذاته وليس بنجس.

ومن خلال النظر في الأدلة يبدو أن القول بطهارة الخمر قول فيه قوة، وكأن الأدلة على نجاسة الخمر لا يمكن أن تثبت بحيث لا تجد دليلاً صريحاً بأنها نجس، فهنا قد يجد الإنسان أنه بإمكانه أن يخالف؛ لكن في مسائل محدودة، وإلا فالأصل أن يحاول أن يتمسك بقول الجمهور.

وأقول لكم: من خلال ملاحظتي أن الإنسان إذا تأمل -المهم ألا يستعجل بالأخذ بظاهر النص- إذا تأمل يجد لقول الجمهور متانة أحياناً، ولعلي أضرب لكم مثالاً واجهته في حياتي: حين تلقيت بعض المسائل على شيوخنا كنت أسمع بعضهم يقول: إن الإنسان المستيقظ من نوم الليل يجب عليه أن يغسل يده قبل أن يدخلها في الإناء، في الماء، ويستدل بقول النبي صلى الله عليه وسلم: {إذا أستيقظ أحدكم من نومه فلا يغمس يده في الإناء حتى يغسلها ثلاثاً، فإنه لا يدري أين باتت يده} وهذا دليل يدل على تحريم غمس اليد، كنا نتابع شيوخنا أو بعض شيوخنا في هذه المسألة لكن لما تسنى لي وبحثت المسألة ونظرت في أقوال العلماء القدماء والمعاصرين وجدت أولاً: أن الجمهور على أنه لا يجب ولكن يستحب له، وهذا مذهب مالك والشافعي وأبي حنيفة وهو أيضاً رواية في مذهب الإمام أحمد، ورجحه عدد من علمائنا المعاصرين.

نظرت في الدليل الذي يستدلون به على وجوب غسل اليد وهو قوله: {فلا يغمس يده حتى يغسلها ثلاثاً} فوجدت أن هناك أشياء كثيرة يمكن أن تصرف هذا الدليل عن القول بالوجوب وجوب الغسل إلى الاستحباب فقط، مثلاً قوله: {حتى يغسلها ثلاثاً} لو قلنا بالوجوب؛ لكان معنى ذلك يجب أن نغسلها ثلاث مرات؛ لأن هذا نص الحديث ولا أحد يقول بهذا، الذين يقولون بالوجوب يقولون يغسلها ولو مرة، إذاً التقييد بثلاث دليل على أنه لا يجب ويستحب أن يغسلها ثلاثاً.

كذلك التعليل في قوله: {فإن أحدكم لا يدري} فمثلاً الآن، لو كان على يد الإنسان نجاسة يشاهدها بعينه وغسلها مرة واحدة فزالت النجاسة، هل يجب غسلها مرة ثانية؟ لا يجب، المقصود أن تزول النجاسة، فلو غسلها مرة واحدة فزالت النجاسة؛ فلا يجب أن يغسلها مرة أخرى، يغسلها تنظيفاً واطمئناناً حسن، لكن لا يجب، فمن باب الأولى إذا لم يكن هناك نجاسة متيقنة أنه لا يجب عليه ذلك.

ولعل قوله صلى الله عليه وسلم: {فلا يغمس يده في الإناء} مثل قوله صلى الله عليه وسلم: {إذا استيقظ أحدكم من نومه فليستنثر ثلاثاً، فإن الشيطان يبيت على خيشومه} ولا أحد يقول بوجوب الاستنثار عند الاستيقاظ من نوم الليل إلا ابن حزم، ولا دليل له؛ لأنه حتى هذا الحديث ورد {إذا استيقظ أحدكم من نوم الليل فتوضأ فليستنثر ثلاثاً} فيكون الأمر إذاً على الاستحباب لا على الإيجاب.

هذا مثال، وأحياناً الإنسان إذا تأمل يجد أن قول الجمهور له قوة ووجاهة، بشرط أن لا ينحل كثيراً إلى ظاهر النص ويتجاهل نصوصاً وقرائن أخرى.

وهناك نقطة أخرى أشارة إليها السؤال فيما يتعلق بالتفريق بين الاتباع والتقليد.

الاتباع هو: أن تسأل العالم عن الحكم والدليل.

والتقليد هو: أن تسأله عن الحكم دون الدليل، وتقلده بغير حجة.

وهذا الفرق يوجد أحياناً، لكنه غير مضطرد، بمعنى أنه: قد يوجد -أحياناً- إنسان ليس طالب علم متمكن يستطيع أن يفهم هذا المسألة، ولا هو أيضاً عامي بحت، لكنه بين بين.

يعني عنده اهتمام وعنده مطالعات، فيفهم الأدلة إجمالاً وإذا فُهِمَ فَهِمَ، فهذا نقول له: نعم، الأولى أن يسأل العالم عن المسألة وعن دليلها، أما العامي البحت فلا نطالبه بالسؤال عن الدليل للتعليل السابق.

طور بواسطة نورين ميديا © 2015