عدم ثبوت الدليل

السبب الثالث: هو عدم ثبوت الدليل عند العالم، يعني قد يبلغه الحديث لكن لم يثبت عنده.

وأنتم تعرفون أن علماء الحديث عندهم من الاختلاف مثل غيرهم، فهم يختلفون -مثلاً- في توثيق الرواة، ففلان ضعيف عند بعضهم ومقبول عند آخرين، ويختلفون في اتصال الأسانيد وانقطاعها، ويختلفون على العموم في صحة الأحاديث وضعفها، قد يصحح عالم حديثاً ويضعفه عالم آخر، وبالتالي يقع اختلاف بينهم بسبب الاختلاف في ثبوت الدليل عندهم.

وأمثلة ذلك كثيرة جداً، وأيضاً لا يمكن أن أحصرها، لكن من أقرب وأسهل الأمثلة: اختلافهم في جواز مس المصحف لغير المتوضئ، اختلفوا في ذلك فالأئمة الأربعة يقولون لا يجوز لغير المتوضئ أن يمس المصحف، وذلك أخذاً من حديث: {لا يمس القرآن إلا طاهر} وهو حديث حسن بمجموع طرقه من حديث عمرو بن حزم، وحديث حكيم بن حزام وعبد الله بن عمر، وكذلك الآية الكريمة {لا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ} [الواقعة:79] لكن الطبري وابن حزم وجماعة من العلماء يقولون: يجوز لغير المتوضئ أن يمس المصحف؛ لأن الحديث لم يثبت عندهم، فاختلفوا في الحكم نظراً لاختلافهم في ثبوت الدليل.

ولعل من هذا السبب الاختلافات المذكورة بين الصحابة رضي الله عنهم فيما يتعلق باستدراك عائشة عليهم، فقد استدركت عائشة على جماعة من الصحابة استدراكات كثيرة على عمر وعلى ابن عمر وعلى أبي هريرة وعلى ابن عباس، حتى أن الزركشي جمع استدراكات عائشة على الصحابة في كتاب سماه "الإجابة لإيراد ما استدركته عائشة على الصحابة".

فـ عائشة رضي الله عنها يبلغها الدليل وتعلم به، لكنه لا يصح عندها وتعتقد أنه حصل وهم من الراوي، وأحياناً يكون الصواب معها وأحياناً يكون الصواب مع غيرها.

فمثلاً: لما سمعت عائشة رضي الله عنها أن ابن عمر يقول -كما في الصحيحين- أن الرسول عليه الصلاة والسلام: {اعتمر أربع عمرات إحداهن في رجب} تبسمت عائشة وقالت: غفر الله لـ أبي عبد الرحمن -تعني ابن عمر - والله ما اعتمر النبي صلى الله عليه وسلم قط إلا وهو شاهده -تعني حاضر معه- وما اعتمر في رجب قط، فنسبت إليه الوهم أنه غلط، وفعلاً الصواب معها رضي الله عنها في هذه المسألة، أن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يعتمر في رجب قط، ولذلك وافقها غيرها من الصحابة.

وأحياناً يكون الصواب مع غيرها، كما استدركت في قطع المرأة للصلاة وقالت: [[كان يصلي رسول الله وأنا معترضة بين يديه، اعتراض الجنازة على السرير، فإذا سجد غمزني فقبضت رجلي فإذا قام بسطها]] وكان الصواب مع غيرها في هذه المسألة، وكما اعترضت على عمر في مسألة وعلى غير عمر أيضاً في مسألة أن الميت يعذب ببكاء أهله عليه ومسائل كثيرة، فهذا لأن الدليل بلغها لكن لم يثبت عندها رأت أن الراوي وهم في هذا الدليل.

طور بواسطة نورين ميديا © 2015