السبب الرابع: هو عدم دلالة الحديث أو النص على المقصود، وأنتم خبيرون بأن دلالة النصوص تنقسم إلى قسمين: هناك نص يسمى قطعي الدلالة، والنص قطعي الدلالة لا يحتمل إلا معنى واحداً فمثلاً قول الله تعالى: {وَلَكُمْ نِصْفُ مَا تَرَكَ أَزْوَاجُكُمْ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُنَّ وَلَدٌ} [النساء:12] .
هذه الآية لا يمكن أن يختلف اثنان في فهمها؛ لأن كلمة النصف معروفة عند الجميع، ولذلك يتفق العلماء على دلالة الآية ومعناها، وهذا يسمى قطعي الدلالة، والمخالف فيه يعتبر مرتداً عن الإسلام إذا خالف فيه.
لكن هناك نوعاً آخر من النصوص دلالته ظنية ليست قطعية، ومن أبرز الأمثلة قول الله تعالى: {وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ} [البقرة:228] أي: المرأة المطلقة تنتظر العدة ثلاثة قروء، ما هو القرء؟ بعض العلماء قال: القروء: هي الأطهار، أي ثلاثة أطهار، وبعضهم قال: لا، القروء هي الحيض، فتتربص ثلاث حيض، واللغة العربية تحتمل هذا وهذا؛ لأن الكثير من العلماء قالوا: إن القروء من أسماء الأضداد تطلق على الطهر وعلى الحيض، فالمهم أن القرء هذا دلالته على أحد المعنيين دلالة ظنية، وليست قطيعة، أي: مختلف فيها.
فقد يبلغ العالم الدليل ويثبت عنده ولا ينساه، ولكنه لا يعتقد أنه يدل على الأمر المقصود فيخالف في ذلك، ولعل من الأمثلة الفرعية أيضاً: اختلاف العلماء في لحم الجزور، هل ينقض الوضوء أم لا ينقض الوضوء؟ هذا ورد فيه حديث: {أنتوضأ من لحوم الإبل، قال: نعم} وقبله {أنتوضأ من لحوم الغنم قال إن شئت} .
فدلالة الحديث على وجوب الوضوء من لحوم الإبل ليست قطيعة بل ظنية؛ لأن احتمال أن يكون قوله: نعم توضئوا، على سبيل الاستحباب، كما في قوله فيما بعد: {أنصلي في معاطن الإبل؟ قال: لا، أنصلي في مرابض الغنم؟ قال: نعم} فالصلاة في مرابض الغنم ليست واجبة، وإنما هي جائزة.
فبعضهم قال: إن الحديث يدل على الاستحباب فقط، بعضهم حمل الحديث على أن المقصود الوضوء مما مست النار، وقالوا: إنه منسوخ وبالتالي ذهب الأئمة الثلاثة مالك والشافعي وأبو حنيفة إلى أنه لا يجب الوضوء من لحوم الإبل، وذهب الإمام أحمد وإسحاق وجماعة من العلماء إلى وجوب الوضوء من لحوم الإبل لصحة الحديث وثبوته عندهم، المهم هذا من أسباب اختلافهم.