السبب الثاني: أن الدليل قد يبلغ العالم لكن ينساه، ومن طبيعة الإنسان أنه قد ينسى أحياناً، ينسى نسياناً مطلقاً، وأحياناً نسياناً مؤقتاً، حتى القرآن قد ينسى الإنسان آية منه أحياناً.
حتى الرسول صلى الله عليه وسلم يقول كما في صحيح مسلم عن أُبي بن كعب مرفوعاً يقول: {رحم الله أبياً كم من آية أذكرنيها كنت أنسيتها} .
يعني: ينسى الرسول عليه الصلاة والسلام آية فيذكره بها أبي بن كعب، لكن هذا ليس نسياناً مطبقاً مطلقاً، بل ينسى فترة ثم يتذكر.
إنما -أحياناً- يوجد نسيان كامل للنص، ولذلك علماء الحديث عندهم باب يسمونه: "من حدث ونسي"، وقد صنَّف فيه السيوطي كتاباً سماه "تذكرة المؤتسي فيمن حدث ونسي".
حتى أن بعضهم يقول: حدثني فلان أنني حدثته بكذا وكذا، فيروي عن فلان؛ لأنه حدثه ثم نسي الحديث، فصار يرويه عنه بالواسطة، يرويه عن نفسه بالواسطة، هذا كثير وله أمثلة ذكرها ابن الصلاح وغيره من العلماء.
أما كون الإنسان يقول بقول أو يعمل عملاً ناسياً فدليله: القصة التي رواها الحاكم وغيره، وسندها صحيح، قصة أبي مسعود وحذيفة بن اليمان رضي الله عنه، فقد كان حذيفة وأبو مسعود بالمدائن فصلى حذيفة إماماً بالناس، وكان يصلي على دكة -على مكان مرتفع- والناس على الأرض، فجره أبو مسعود حتى نزل إلى الأرض وصلى بالناس وهو مساوٍ لهم، فلما سلَّم قال أبو مسعود لـ حذيفة: ألم تعلم أن الرسول صلى الله عليه وسلم كان ينهي عن ذلك، يعني ينهى عن ارتفاع الإمام عن المأموم لغير حاجة، فقال له حذيفة: بلى نسيت، ولكنني ذكرت حين سحبتني يعني حين جررتني، فذكر الحديث وإلا من قبل كان ناسياً لهذا الحديث، فلما ذكر الحديث انصاع له حالاً ونزل من على الدكة ولم يتمسك برأيه السابق.
وأما قضية الصلاة على المكان المرتفع ذكر العلماء أنها تجوز للحاجة، ولذلك الرسول صلى الله عليه وسلم صلى في مكان مرتفع كما في القصة المتفق عليها، أنه لما بني له المنبر وصعد عليه وكبر؛ وصلى بعض الصلاة وهو على المنبر، فلما أراد السجود نزل القهقرى وسجد على الأرض، وفي الركعة الثانية صعد حتى يرى الناس صلاته، وقال: {إنما صنعت هذا لتأتموا بي ولتعلَّموا صلاتي} .
فالقضية لا تعنيننا كقضية فقهية أو فرعية بل يعنينا أن من أسباب الاختلاف أحياناً أن العالم قد يبلغه الدليل لكنه ينساه، فيفتي بخلافه فإذا ذكر له تذكر ورجع إلى الدليل.