الحديث عن الواقع باعتدال

إذاً فالرسول صلى الله عليه وسلم يرشدنا إلى أن يكون حديثنا عن الواقع والفساد الموجود فيه حديثاً معتدلاً، لا نتعدى فيه حدود الحاجة.

وقد يقول قائل في هذا الموقف: إذن هل يجب علينا أن نتعامى عن الفساد القائم والواقع ولا نتحدث عنه، فلا نذكر إلا الخير والصورة المشرقة، ونغمض أعيننا عن الصور المعتمة والقاتمة في المجتمع؟! فأقول: كلا، بل إن الحديث عن الفساد وما يجري في المجتمع من انحراف وانحلال هو كالملح في الطعام، إن زاد أفسد الطعام، وإن نقص -أيضاً- أفسد الطعام، بل يجب أن يوضع فيه بقدر، فلا يزيد ولا ينقص، ولذلك لما روى الإمام أبو داود رحمه الله هذا الحديث في سننه أعقبه بكلمة للإمام مالك بن أنس رحمه الله، حيث يقول الإمام مالك فيها عن معنى قوله صلى الله عليه وسلم السابق: إذا قال ذلك تحزناً لما يرى في الناس -أي في أمر دينهم- فلا أرى به بأساً، وإذا قال ذلك عجباً بنفسه، وتصاغراً للناس فهو المكروه الذي نُهي عنه.

ويشير الإمام مالك رحمه الله إلى التفصيل في معنى هذا الحديث، وأن الحديث عن هلاك الناس يختلف بحسب الظروف والملابسات والمناسبات التي قيل فيها، كما أن الهلاك المقصود في الحديث، يحتمل في ظني معنى آخر، حيث يكون قول: هلك الناس، في الحديث فيه شرٌ من كل وجه، وهو الحديث عن هلاك الناس في الآخرة، فإنك تجد بعض الناس، وبعض الوعاظ يقنط الناس من رحمة الله عز وجل، وهو يقول: هلك الناس، ويشير بذلك إلى أنهم قد هلكوا وعذبوا في الآخرة، ولا طمع لهم في رحمة الله سبحانه وتعالى.

وهذا لا شك أنه خطأ تربوي وقع فيه كثير من السابقين من أصحاب الملل الضالة والأهواء المنحرفة، كالخوارج وغيرهم، ووقع فيه بعض أهل السنة من الوعاظ والقصاص الذين يقفون أمام الناس فيقنطونهم من رحمة الله تعالى، فيجب أن نضع الأمر في موضعه وفي إطاره الصحيح.

ونحن نجد في القرآن الكريم الحديث عن الجنة إلى جانب الحديث عن النار، والحديث عن رحمة الله إلى جانب الحديث عن غضبه، كقوله تعالى: {نَبِّئْ عِبَادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ وَأَنَّ عَذَابِي هُوَ الْعَذَابُ الْأَلِيمُ} [الحجر:50] ولذلك قال بعض السلف: من عبد الله بالخوف وحده فهو حروري، ومن عبد الله بالحب وحده فهو زنديق، ومن عبد الله بالرجاء وحده فهو مرجئ، ومن عبد الله بالحب والخوف والرجاء فهو مؤمن موحد، أو كما قال.

طور بواسطة نورين ميديا © 2015