تفسير هجر الخلان الذي يلزم لطلب العلم

Q أسئلة كثيرة يريدون تفسيراً جلياً للكلمة التي أوردتها، وهي قول بعضهم: "من أراد طلب العلم فليهجر دكانه، وليخرب بستانه، وليفارق خلانه" ويخصون الكلمة الأخيرة، إذ كيف نوفق بين الدعوة إلى الله عز وجل ومخالطة الناس وبين قول هذا العالم: وليفارق خلانه"؟

صلى الله عليه وسلم كما ذكرت حين إيراد هذه الكلمة أنه ليس المقصود منها ظاهر لفظها، لأننا نعلم مثلاً أن الأمة والعلماء لم يكونوا رهباناً في صوامعهم، بل حتى الأنبياء عليهم السلام، ولماذا نضرب المثل بالعلماء؟ الأنبياء عليهم الصلاة والسلام كان لهم أزواج وذرية كانوا يأكلون الطعام ويمشون في الأسواق، ويحتكون بالناس ويخالطونهم ويأمرونهم وينهونهم، وهذا نوح عليه السلام يقول: {قَالَ رَبِّ إِنِّي دَعَوْتُ قَوْمِي لَيْلاً وَنَهَاراً * فَلَمْ يَزِدْهُمْ دُعَائي إِلَّا فِرَاراً * وَإِنِّي كُلَّمَا دَعَوْتُهُمْ لِتَغْفِرَ لَهُمْ جَعَلُوا أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ وَاسْتَغْشَوْا ثِيَابَهُمْ وَأَصَرُّوا وَاسْتَكْبَرُوا اسْتِكْبَاراً * ثُمَّ إِنِّي دَعَوْتُهُمْ جِهَاراً * ثُمَّ إِنِّي أَعْلَنْتُ لَهُمْ وَأَسْرَرْتُ لَهُمْ إِسْرَاراً} [نوح:5-9] فليس المقصود من هجر الخلان وتوابعه حقيقة معناه، لأن السلف كان يعبرون عن المعنى بالرمز أحياناً، هذه قضية يجب أن تعرف، أحياناً، عندما يقولون: فلان لا يعرف الدرهم من الدينار! هل يقصدون حقيقة معناها أنه -فعلاً- لو جاءه درهم ودينار لا يعرف، لا! ليس الأمر كذلك.

لكن هذه أمثال تضرب وكلمات تنقل، يقصد منها أن الطالب عليه أن يعلم أن العلم لا يستطاع براحة الجسم، فالطالب مثلاً الذي ينام بعد صلاة الفجر حتى يأتي وقت دراسته أو عمله، ثم يذهب إلى الدراسة والعمل، ثم يأتي بعد الظهر متعباً فيتغدى ثم ينام، ثم بعد العصر يجلس يشرب الشاي مع أهله حتى الغروب، ويقول: وقت العصر في هذه الأيام قصير بعد المغرب يجلس يتعشى مع أهله، وبعد العشاء يسهر مع أصدقائه، وهذا برنامجه! هذا لن يحصل علماً ولا عملاً ولا دعوة ولا غير ذلك، لكن على الإنسان أن يضحي ببعض راحته فلا يكثر من الجلوس في المجالس التي لا فائدة منها.

ربما لو حسب بعض الإخوة وقت النوم لوجد أنه يزيد على تسع ساعات في يومه وليلته، لو حسب وقت الأكل والشرب لوجد أنه أضعاف ما يكفي لهذا الأمر، ثم تجد البعض يقول: أنا عجزت عن التوفيق بين طلب العلم وبين الدعوة وبين القيام بحقوق الأهل، نعم! عجزت لأنك أمضيت وقتك في نوم وأكل وشرب وأحاديث لا فائدة منها، لكن لو ضبطت وقتك فالوقت فيه بركة، فلو ضبطت وقتك استطعت أن توفق بين هذه الأشياء جميعها.

طالب العلم يحتاج إلى أقران يعينونه على العلم ويشجعونه ويقوون همته والرسول عليه الصلاة والسلام قال في الحديث الذي رواه مسلم عن أبي هريرة: {وما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله يتلون كتاب الله ويتدارسونه فيما بينهم إلا نزلت عليهم السكينة، وغشيتهم الرحمة، وحفتهم الملائكة، وذكرهم الله تعالى فيمن عنده} فهذا وعد لمن اجتمعوا {وما اجتمع قوم} فلا يناله الفرد بكامله إنما يناله القوم، والله تعالى يقول في الحديث القدسي: {من ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي ومن ذكرني في ملأ ذكرته في ملأ خير منهم} فذكر الله وطلب العلم والدعوة وسط مجموعة من القرناء الذين يعينون الإنسان على هذا السبيل يبينون له أخطاءه ويوقفونه عند حده أمر مهم جداً.

من أبسط الأمور التي اضرب بها المثل: طالب العلم أحياناً يخيل إليه أنه -ما شاء الله- حصل من العلوم ما لم تستطعه الأوائل! هذا يحصل وهو شعور طبيعي، لكن إذا جالس الآخرين ممن لديهم علوم ليست عنده، وسمع منهم، واطلع على ما لديهم، عرف قدر نفسه وتذكر أنه ليس عنده من العلم إلا النزر اليسير، وأن غيره قد فاته في ذلك بكثير فدفعوا عنه شراً كاد أن يقع فيه.

طور بواسطة نورين ميديا © 2015