أقول: السلف رضي الله عنهم كانوا يفهمون العلم هكذا ما كانوا يطلقون لفظ العلم على المعلومات المجردة، وهذا من المصطلحات التي تغيرت اليوم عما كانت عليه في الماضي، فالسلف -حين كانوا يقولون: فلان عالم أو يقولون اطلب العلم- كانوا يقصدون العلم وثمرته التي هي العمل والتأثر، التأثر القلبي والسلوكي بالعلم، أما مجرد تحصيل المعلومات فلم يكن عندهم فقهاً ولا علماً، ولهذا قال الله عز وجل: {وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً فَلَوْلا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ} [التوبة:122] .
هل إنذار الناس يكون فقط بالأحكام الفرعية؟! هل إنذار الناس يكون بأن تبين لهم مثلاً أحكام الحيض أو أحكام النفاس أو أحكام سجود السهو؟! كلا! إنما الإنذار يكون بالعلم الذي ينفذ إلى القلب، العلم بالله تعالى، العلم باليوم الآخر، وكذلك معرفة هذه الأحكام الفرعية الشرعية على سبيل العمل بها والدعوة إليها وعبادة الله تعالى بامتثالها، هكذا كان العلم.
ولذلك روى الخطيب البغدادي في كتابه المفيد الذي سماه الجامع لآداب الراوي وأخلاق السامع عن ابن سيرين أنه قال: "كانوا يتعلمون الهدي كما يتعلمون العلم" يتعلمون الهدي -وهو السمت والخلق والسلوك- كما يتعلمون العلم! وذكر الخطيب أيضاً في كتابه المشار إليه عن أبي زكريا العنبري أنه كان يقول: "علم بلا أدب كنار بلا حطب، وأدب بلا علم كروح بلا جسم" أما قوله: "علم بلا أدب كنار بلا حطب" فمعناه والله أعلم: أن العلم يقتبس منه فلا ينقص، مثل النار الذي يوضع عليها الحطب يقتبس الناس منها فلا تنقص، فالعلم الذي ليس معه أدب هو كالنار التي ليس معها حطب، وما هو مصير النار إذا لم يكن معها حطب؟ أن تخبو وتنطفئ، وكذلك طالب العلم إذا لم يتحل بالأدب والخلق الحسن، فسرعان ما يعرض عن العلم ويشتغل بالدنيا.
وروى الإمام الدارمي في سننه أن الحسن البصري -رحمه الله- تكلم في مسألة من مسائل الفقه في مجلس من المجالس، فقال له رجل اسمه عمران المنقري: يا إمام! ما هكذا يقول الفقهاء! كأنه رأى أن ما قرره الحسن البصري مخالف لما يقرره أهل العلم والفقه فقال: له الحسن البصري: [[وهل رأيت فقيهاً قط- أي هل سبق أنك رأيت فقيهاً في حياتك- إنما الفقيه: العالم بأمر الله، الزاهد في الدنيا، الراغب في الآخرة، المداوم على عبادة ربه تبارك وتعالى]] فهكذا كانوا يفهمون العلم، وكانت حياتهم تطبيقاً لهذا الفهم.