قضية العشق

ثالثاً: قضية العشق.

إنها مشكلة كبيرة، وأعتقد أن تعلق القلب بإنسان، سواءً كان فتاة بنتاً أو كان شاباً صغيراً أمرد حسناً وسيماً، تتعلق به بعض قلوب الشباب وتركض وراءه، وربما أركبه أحدهم في سيارته ليل نهار، وسعى إلى تهيئة الفرص والأسباب بأن يجلس حوله في مزرعة أو استراحة أو شقة، وربما كان هذا الرجل أحياناً كبير السن أو متزوجاً أو ذا أطفال، ومع ذلك لا يقوم ولا ببعض الجهد لزوجته أو أطفاله، مثل: ما يقوم به لهذا الإنسان الذي استولى على قلبه، وأصبح يعتبره ولداً لهواه، يسميه ولد الهوى -مثلاً- أو محبوبه أو معشوقه، ويعتبره خاصاً به، ويسعى إلى إرضائه بكل المستطاع، وربما هجره هذا الإنسان؛ فجلس أياماً طويلة يبكي وينتحب كما تنتحب الثكلى.

إن ذلك من أخطر الأمراض التي تودي بالإنسان إلى الهاوية في الدنيا وفي الآخرة، فهو يلهي عن ذكر الله تعالى وعن الصلاة، وأي مكان في القلب المشغول بحب ليلى وسلمى ولبنى، أو المشغول بحب فلان وفلان من المردان الحسان، أي مكان في القلب لذكر الله تعالى أو محبته.

بل ربما يكون في حال عبادة مع الناس وهم في واد وهو في واد آخر، يذهب للحج فيبكي الناس في عرفة ويجأرون إلى الله تعالى وتنهل دموعهم، حتى العصاة والفساق والمقصرون؛ ترى عندهم من الانكسار والبكاء والنحيب والصياح -أحياناً- ما تتكسر له القلوب، ومع ذلك هذا الإنسان في واد آخر، يقول: وداعٍ دعا إذ نحن بالخيف من منى فهيج أشجان الفؤاد ولا يدري دعا باسم ليلى غيرها فكأنما أطار بـ ليلى طائراً كان في صدري أو يصلي فيسجد الناس ويرفعون لرب العالمين، يعفرون جباههم، ويستغفرون ويسألون الله تعالى، ويبللون بدموعهم خدودهم، أما هو فيبكي معهم، ولكن يبكي لشيء آخر مختلف تماماً.

أصلي فأبكي في الصلاة لأجلها لك الويل مما يكتب الملكان بل ربما أدى به ذلك إلى أن يعترض على قضاء الله، ويتبرم ولا يرضى بالله تعالى رباً وإلهاً ومدبراً، كما قال أحدهم: قضاها لغيري وابتلاني بحبها فهلا بشيء غير ليلى ابتلانيا وربما تمنى هذا العاشق الوقوع في الفاحشة، لنفسه أو حتى لغيره من الناس، فأحب ما يكرهه الله تعالى ويبغضه، وأبغض ما يحبه الله تعالى ويرضى به، أبغض العفاف وأبغض الطهارة وأبغض النقاء، وأحب الفاحشة والمنكر والفساد، حتى يتحقق له ما يريد، كما قال محمد إقبال رحمه الله: لقد سئم الهوى في البيد قيس ومل من الشكاية والعذاب يحاول أن يباح العشق حتى يرى ليلاه وهي بلا حجاب يقول المجنون: فيا ليت كل اثنين بينهما هوى من الناس والأنعام يلتقيان فيقضي حبيب من حبيب لبانة ويرعاهما ربي فلا يريان إنه يتمنى أن يفضي كل محبوب إلى محبوبه، فيما يجد في نفسه من التعلل والتعلق الذي يصل إلى حد التعبد لغير الله عز وجل، إن هذا قد يفضي بالإنسان أحياناً إلى الشرك والكفر.

روى ابن الجوزي، كما في كتاب تسجيل الأشواق، أن شاباً خرج فرأى جارية نصرانية، فعلق قلبه بها وأشرب حبها، وسهر الليل وتعب ومرض، وحيل بينه وبينها فلم يستطع؛ حتى أصيب بخبل في عقله وحمل إلى المستشفى، مستشفى الأمراض العقلية كان وقتها يسمى المارستان-.

حمل هذا الإنسان إلى المستشفى، وكان له صديق يتردد عليه قال: فلما جاءه أحد المرات، قال له هذا الإنسان العاشق المريض: إني قد يئست من لقاء فلانة في الدنيا -وهي كانت نصرانية- قال: فأريد أن أتنصر لعلي ألقاها في الدار الآخرة، حتى ولو كان في نار جهنم والعياذ بالله تعالى.

قال: فتنصر ومات من ساعته، ثم خرج هذا الإنسان فجاء إلى تلك الفتاة يوماً من الأيام، وإذا بها قد أصابها ما أصابها من الوله والعشق والتعلق بذلك الإنسان، ولم تدر ما خبره، فإذا بها تقول: إنني قد أيست من لقاء هذا الإنسان في الدنيا، وقد رأيته مسلماً وأنا أحب أن ألقاه في الآخرة، فإني أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمداً رسول الله.

ثم أسلمت وصدقت ثم قبضت على الإسلام، فانظر كيف يمكر الله تعالى بمثل هؤلاء الذين فتنوا أنفسهم، وضلوا وأضلوا، والله تعالى قال: {وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ} [الأنفال:30] فعلى العبد أن لا يأمن مكر الله {أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللَّهِ فَلا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ} [الأعراف:99] .

طور بواسطة نورين ميديا © 2015