الملاحظة الرابعة: من الملاحظ -فعلاً- أن هناك جفوة بين الأخيار وبين غيرهم، يقام مثلاً نشاط في مدرسة متوسطة أو ثانوية أو جامعة، فتجد هذا النشاط يقتصر على أربعين طالباً، بينما طلاب المدرسة يناهزون ثمانمائة طالب، أي أنه لا يتجاوز عدد المنتسبين إلى النشاط الخيري في المدرسة نسبة (5%) .
إذاً لمن نترك (95%) من شبابنا وفلذات أكبادنا، الذين هم عدة المستقبل وهم روح الأمة وهم سر قوتها وبقائها بإذن ربها؟ هؤلاء الشباب الذين يملكون الاستعداد للخير وتقبل النصيحة، إذا وجدوا حسن الدعوة وحسن المعاملة وسعة الصدر والصبر عليهم، لمن نترك هؤلاء؟ هل نتركهم -مثلاً- لقرناء السوء! أو لتجار المخدرات، أو ضحايا الإعلام الفاسد؟! إن ذلك لا يحوز بحال، ألم يغش رسول الله صلى الله عليه وسلم نوادي قريش ومجالسها، ألم يغش خيام الحجيج في مكة ومنى وعرفات يدعوهم إلى الله، وكانوا على عصيان وعلى شرك وعلى عبادة الأوثان، وربما شربوا الخمور وتناشدوا الأشعار الجاهلية، التي ليس فيها إلا الفخر والخيلاء والكذب والزور، ومع ذلك كان يغشاهم عليه الصلاة والسلام بصبر عميق طويل، ويدعوهم إلى الله تعالى، فيرده هؤلاء ويرده أولئك، ولا يزال صلى الله عليه وسلم يضرب المثل في صبره وإصراره على دعوته.
إذاً فلماذا لا نتصل بجمهور الشباب، في مدرجات الرياضة أو تجمعات السمر، أو الاستراحات التي يذهبون إليها في وقت الفراغ، أو في شوارع التفحيط، أو في الأرصفة التي يجلسون عليها حتى الهجيع الأخير من الليل، بل حتى طلوع الشمس أحياناً، أو في خيامهم التي ينصبونها في البر؟ لماذا لا نتواصل معهم ونتعرف إليهم بالود والمحبة والشفقة؟ نعاملهم معاملة الطبيب، الذي يحنو على المريض ويعمل على إقناعه بالعلاج بكل وسيلة، أو الأب الذي يبحث عن العافية لأولاده مهما كلفه ذلك من الصبر والمشقة، دون أن نشعرهم أبداً أننا نتعامل معهم معاملة الأستاذ، أو أننا نستعلي عليهم، أو أننا أكبر منهم، أو أننا أعرف منهم.
لا أتعامل معهم من هذا المنطلق، بل أتعامل من منطلق أخوي بحت، محض نصيحة وود وإخاء لهؤلاء الشباب، الذي هم في الجملة أصحاب فطر سليمة وقلوب قابلة للخير والهداية.
وكثير من هؤلاء -ويجب أن تثق بهذا- كثير من هؤلاء سيكونون في المستقبل خطباء جوامع، وأئمة مساجد، ورواد حلقات، ومدرسين ومدراء، وصالحين بكل حال إن شاء الله تعالى، وإنني أقول لكم عن تجربة وخبرة.
أيها الإخوة: أتذكر زملائي الذين كنا معهم على مقاعد الدراسة؛ فأجد أن الذين برزوا منهم، برزوا دعاة إلى الله، أو خطباء أو معلمين أو مرشدين، أو عاملين في أي حقل من الحقول الخيرية، فأجد نسبة ربما تزيد على (50%) ممن كانوا على مقاعد الدراسة بهيئة وصفة أخرى مختلفة، ثم هداهم الله تعالى فكانوا نموذجاً للمهتدي، الذي آلى على نفسه وقطع على نفسه إلا أن يكفر عما مضى بأعمال صالحة عظيمة.
لقد أفلح بعض إخواننا من الشباب في فترة مضت؛ أن يحولوا شارع الموت في الرياض إلى شارع يضج بالحياة، ويضج بالقوة والهداية والتوبة، والإقبال على الله عز وجل، وارتفعت فيه الأصوات، وبدأت فيه القلوب تهفو إلى باريها، وتتطلع إلى الخير والهداية، ولو أن حركة الدعوة دُعمت دعماً خفيفاً؛ لآتت أكلها كل حين بإذن ربها.
بل أقول: لو خُلي بين الدعاة وبين الناس لرأينا العجب العجاب، وقديماً قال النبي صلى الله عليه وسلم: {يا ويح قريش لقد أكلتهم الحرب، ماذا عليهم لو خلوا بيننا وبين الناس، فإن أظهر فعزي عزهم ونصري نصرهم وكانوا أسعد الناس بي، وإن أقتل فقد كفوا بغيرهم} .