الملاحظة الخامسة: ألحظ أننا نتميز جميعاً -أهل هذا المجتمع- وربما أستطيع أن أقول: المجتمعات العربية والإسلامية على وجه العموم في كل البلاد، نتميز بنوع من الفضول في نظرتنا التي لا معنى لها في مجتمعاتنا.
فالإنسان منا ينظر إلى كل أحد، هذا قَدِم، وهذا خرج، وهذا دخل، وهذا قام، وهذا قعد، وينظر نظرات طويلة، ثم بعد ذلك يصدر حكماً وكلاماً وتقريراً، فلان مع فلان شكله كذا ويعمل كذا، يقدم أحياناً ملاحظات دقيقة وعجيبة، فيقول أشياء، عن حال هذا الإنسان أو ملبسه أو طريقته في غاية الغرابة، مع أنه خلق مذموم، وفي الحديث الصحيح المتفق عليه: {أن رجلاً نظر من ثقب الباب إلى بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال له النبي عليه الصلاة والسلام: لو أعلم أنك تنظر -وكان مع النبي صلى الله عليه وسلم مدرى، مشط يسرح به رأسه- فقال: لطعنت به في عينك، إنما جعل الاستئذان من أجل البصر} أي: لا تجعل عينك تتلصص على الآخرين، تنظر إلى هذا وذاك، وتراقب هذا وتلاحظ القادم وتتلفت يمنة ويسرة وتطيل النظر، فإن هذه النظرات الفضولية عيب لا يليق بأي إنسان صادق.
رأيت الناس -مع الأسف الشديد- في بلاد غربية، يلتزمون هذا الخلق أكثر مما يلتزمه المسلمون، قدمنا إلى تلك البلاد بملابسنا المعتادة وغترنا وثيابنا، وكان منظرنا مثيراً عندها، لأول مرة يشاهده بعض أطفالهم ورجالهم، فكان الأطفال -أحياناً- يتلفتون وينظرون ببساطة وبراءة، فكان الأب يجر ولده ويزجره وينهاه أن ينظر إلى الآخرين مثل تلك النظرات، مع أنه مشهد يعد مثيراً أو غير مألوفٍ عندهم.
لو مر إنسان من أمام أحدنا، كان من الممكن أن يحدثك الآخر عن نوع ثيابه، بل عن عدد الأزارير الموجودة فيه، ولون الحذاء، وطريقة لبس الغترة أو الشماغ والطاقية، وصفة الشعر، وغير ذلك من التفاصيل، إنه نوع من نقص التهذيب الذي يحب أن نتدرج على تركه والابتعاد عنه، وأن نشتغل بالأمور الكبار ولا نضع أنفسنا لمثل هذه القضايا.
إن البحث عن الآخرين لا معنى له، ولا قيمة لأن يكلف الإنسان نفسه عناء مراقبة الآخرين، ويترك مراقبة نفسه وضبط تصرفاتها.
لنفسيَ أبكي لست أبكي لغيرها لنفسيَ من نفسي عن الناس شاغل هذا إنسان غير ملتزم وغير متدين في الظاهر يشاهد شخصاً ملتزماً، فتجده ينظر إليه من أعلاه ومن أسفله ويصعد النظر ويصوبه، ثم يقول ويطرح سؤالاً: هل الالتزام أن يخرج هذا الإنسان وهندامه -كما يقولون- مقلوب، والثوب غير مكوي، والشعر غير مسرح ولا مرجل، هل هذا مما يأمر به الدين؟ حسناً، لماذا أنت طرحت السؤال؟ طرحت السؤال لأنك تنظر إلى هذا النوع من الناس نظرة فيها كثير من المعاتبة، والبحث عن أي شيء يمكن أن يصلح للملاحظة.
وبالمقابل شخص ملتزم يعمل -كما يقولون- تشييكاً على آخر مر من عنده، فيقول: الطاقية إلى نصف الجبهة وهي منقطة، الشعر -كما يقول أحدهم- قصة مايكل جاكسون، الأزرار مفتحة إلى نصف الصدر وهكذا.
إذاً لماذا يفعل هذا أو هذا مثل هذه الأشياء؟ لماذا ننظر إلى الآخرين دائماً وكأننا نتفقد عيوبهم، بل المؤسف أنها نظرة سطحية، تقتصر على النظر إلى الغترة أو الطاقية أو الثوب أو البدلة أو البنطلون الذي يمكن أن يلبسه الإنسان، وهذا الأسلوب عليه ملاحظات كثيرة، من أهمها: أنه يعبر عن قلة التفكير وسطحيته وضعفه؛ حيث أن الإنسان لا يتعدى نظره الثوب أو الغترة أو ما أشبه ذلك.
الملاحظة الثانية: أنه يعبر عن العجز عن إصلاح النفس، فإن العادة أن الإنسان إذا عجز عن إصلاح نفسه، ربما يتجه إلى الآخرين لينتقدهم أو يلاحظ عليهم.
الملاحظة الثالثة: أن هذا نوع من فرض الرأي على الغير، والجميع يطالبون -أحياناً- أن يكون للإنسان حرية في حدود المباحات في مثل هذه الأشياء، فلماذا تفرض على الآخرين شيئاً من غير وجه صحيح؟ هذه هي النقطة الأولى.