الضرب الثاني: هو ما جاء في السنة النبوية استنباطاً واستخراجاً من القرآن الكريم، فهو تفصيل لمعانيها، وهذا ضرب لطيف، أن تستخرج الآيات التي تدل على الحديث، أي: تأتي إلى معنى جاء في السنة؛ فتستخرج من القرآن ما يدل عليه، وهذا أسلوب لطيف عني به الحافظ ابن كثير في تفسيره، وبعض طلبة العلم في هذا العصر يحاولون أن يجمعوا كتاباً يشمل كل ما ورد في السنة النبوية مما يعتبر مستخرجاً من القرآن الكريم، استنباطاً من النبي صلى الله عليه وسلم.
ومن لطيف ذلك -مثلاً- قوله صلى الله عليه وسلم -كما في الصحيح: {أقرب ما يكون العبد من ربه وهو ساجد} هل تعرفون آية من القرآن الكريم تدل على هذا المعنى؟ نعم، إنها قوله تعالى: {كَلَّا لا تُطِعْهُ وَاسْجُدْ وَاقْتَرِبْ} [العلق:19] .
أيضاً جاء في مسلم قوله صلى الله عليه وسلم: {إن الإنسان إذا ذكر الله عند دخوله وعند عشائه، قال الشيطان لجنوده: لا مبيت لكم ولا عشاء، فإذا نسي ذكر الله عند الدخول قال الشيطان: أدركتم المبيت، فإذا نسي ذكر الله عند العشاء قال الشيطان أدركتم المبيت والعشاء} هل تعرفون الآية التي تدل على هذا المعنى؟ نعم، إنها قوله تعالى: {وَاسْتَفْززْ مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ بِصَوْتِكَ وَأَجْلِبْ عَلَيْهِمْ بِخَيْلِكَ وَرَجِلِكَ وَشَارِكْهُمْ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلادِ وَعِدْهُمْ} [الإسراء:64] إذاً: من مشاركته في الأموال أن يأكل معك، ويشرب معك، وينام معك، ومتى ذلك؟ إذا لم تذكر الله تعالى.
ومن لطيفها -أيضاً- قوله صلى الله عليه وسلم كما في الحديث المتفق عليه عن علي يوم الأحزاب أنه صلى الله عليه وسلم قال: {شغلونا عن الصلاة الوسطى، صلاة العصر، ملأ الله بيوتهم وأجوافهم ناراً} والحديث نفسه جاء في صحيح مسلم عن ابن مسعود، ففي القرآن الكريم ما يمكن وهذا ليس جزماً، بل هو ظن والعلم عند الله تعالى، ونستغفر الله أن نقول على رسول الله صلى الله عليه وسلم ما لا نعلم أن في القرآن ما يمكن أن يستأنس به على أن الرسول صلى الله عليه وسلم فهم أن الصلاة الوسطى هي صلاة العصر من القرآن الكريم، وهي قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِيَسْتَأْذِنْكُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ وَالَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا الْحُلُمَ مِنْكُمْ ثَلاثَ مَرَّاتٍ مِنْ قَبْلِ صَلاةِ الْفَجْرِ وَحِينَ تَضَعُونَ ثِيَابَكُمْ مِنَ الظَّهِيرَةِ وَمِنْ بَعْدِ صَلاةِ الْعِشَاءِ} [النور:58] فهذه الآية تدل على أن الأوقات تبدأ بالفجر وتنتهي بالعشاء، إذن يكون الوقت الأوسط هو العصر، قبله الفجر والظهر وبعده المغرب والعشاء، فبدأ بقوله، من قبل صلاة الفجر، وانتهى بقوله: من بعد صلاة العشاء، إذن أول الأوقات هو الفجر، ولذلك سلك بعض الفقهاء وكثير من المحدثين في مسلك ذكر المواقيت في الفقه، أن يبدء بميقات صلاة الفجر، ثم الظهر، ثم العصر، ثم المغرب، ثم العشاء، وبعضهم يبدأون بالظهر، والأجود أن يبدأ بالفجر، وإن كان الأمر في ذلك واسعاً.
ومثل ذلك -أيضاً- ما جاء في صحيح مسلم عن جابر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {بين الرجل وبين الشرك والكفر ترك الصلاة} .
وفي السنن عن بريدة وغيره: {العهد الذي بيننا وبينهم الصلاة؛ فمن تركها فقد كفر} ففي القرآن الكريم ما يدل على أن ترك الصلاة كفر، وقد يكون الرسول صلى الله عليه وسلم فهم هذا من كتاب الله تعالى واستنبطها من كتاب الله تعالى، وذلك كما في قوله تعالى: {وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَلا تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ} [الروم:31] فكأن الآية تدل على أن مالم يؤد الصلاة يكن من المشركين، وقوله تعالى: {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ} [البقرة:143] فقد روى البخاري ومسلم عن البراء بن عازب رضي الله عنه أن هذه الآية تنزلت لما حولت القبلة إلى الكعبة، فقال المسلمون: فكيف بمن ماتوا قبل تحويل القبلة وكانوا يصلون إلى بيت المقدس؟! فقال الله: {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ} [البقرة:143] يعني: ليضيع صلاتكم إلى بيت المقدس، فسمى الصلاة إيماناً، والله تعالى يقول: {وَمَنْ يَكْفُرْ بِالْأِيمَانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ} [المائدة:5] ومن الكفر بالصلاة تركها بالكلية، فإن هذا كفر بها، فقد يكون الرسول صلى الله عليه وسلم استنبط من هذه الآية أو من غيرها ما قرره في كفر تارك الصلاة.
ومثل قوله صلى الله عليه وسلم كما في صحيح مسلم عن جابر {أن بني سلمة -وهم حي من الأنصار- كانوا بعيدين من المسجد، فأرادوا أن يبيعوا منازلهم لينزلوا بقرب المسجد، فلما علم بذلك النبي صلى الله عليه وسلم قال: يا بني سلمة دياركم تكتب آثاركم} أي: الزموا دياركم وابقوا فيها وكأنه صلى الله عليه وسلم كره أن يعروا المدينة فأحب أن يكون أهل الخير منتشرين في البلد، فلا يكونون موجودين فقط حول المسجد وبقية الأحياء تخلو منهم.
فقد يكون صلى الله عليه وسلم فهم ذلك واستنبطه من قوله تعالى: {إِنَّا نَحْنُ نُحْيِ الْمَوْتَى وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا وَآثَارَهُمْ} [يس:12] فمن الآثار التي تكتب: خطاك إلى المسجد ذاهباً وآيباً.
ومثل ذلك قوله صلى الله عليه وسلم كما في حديث عمرو بن حزم عن أبيه، عن جده، عند مالك في الموطأ، والحاكم، وحكيم بن حزام وابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {لا يمس القرآن إلا طاهر} يعني: متوضئ؛ هذا معنى طاهر، هذا المعنى قد يكون النبي صلى الله عليه وسلم قد استنبطه، والحديث حسن بمجموع طرقه، وله ما يشهد له، والمقصود بالطاهر على الراجح من أقوال أهل العلم: هو المتوضئ الطاهر من الحدث الأكبر والأصغر، فقد يكون استنبط ذلك الرسول صلى الله عليه وسلم من قوله تعالى: {إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ * فِي كِتَابٍ مَكْنُونٍ * لا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ * تَنزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الواقعة:77-80] .
فقوله: (إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ) وكل ما بعده وصف له، فهو في كتاب مكنون، وهو لا يمسه إلا المطهرون، وهو تنزيل من رب العالمين، ولذلك استدل أهل العلم على تحريم مس المصحف لغير المتوضئ من هذه الآية.