الضرب الرابع: من أضرب بيان الرسول صلى الله عليه وسلم للقرآن هو بيانه للقرآن بفعله، ولذلك قال بعض الأئمة المهتدين في هذا العصر لما سئل عن تفسير القرآن، قال: أعظم كتاب نفهم منه تفسير القرآن هو سيرة النبي صلى الله عليه وسلم؛ لأن سيرة النبي عبارة عن ترجمة عملية للقرآن الكريم، بأقواله، وأفعاله، وتقريراته عليه الصلاة والسلام، ولذلك عائشة قالت: {كان خلقه القرآن} كما أسلفت، وجابر أيضاً قال كما في صحيح مسلم في حديثة الطويل في سياق حجة النبي صلى الله عليه وسلم قال: [[ورسول الله صلى الله عليه وسلم بين أظهرنا، وعليه ينزل القرآن، وهو يعلم تأويله فما فعل من شيء فعلنا مثله]] يعنى: في الحجة وغير الحجة.
ومن أمثلة أعمال الرسول صلى الله عليه وسلم التي تفسر القرآن: صلاته عليه السلام حيث قال: {صلوا كما رأيتموني أصلي} فالصلاة كلها داخلة تحت قوله تعالى: {وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ} [الأنعام:72] .
وحج عليه السلام ونسك المناسك كلها من الإحرام، والطواف، والسعي، والوقوف، والنحر، وقال: {خذوا عني مناسككم} فكل أعمال الرسول صلى الله عليه وسلم في الحج داخلة في تفسير قوله تعالى: {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ} [آل عمران:97] .
وهكذا بين لنا أحكام الصيام، فكلها داخلة تحت قوله تعالى: {كُتِبَ على كُمُ الصِّيَامُ} [البقرة:183] .
ويبين لنا مقادير الزكاة فكلها داخلة تحت قوله تعالى: {وَآتُوا الزَّكَاةَ} [البقرة:43] .
ومن الأمثلة التفصيلية لذلك -على سبيل المثال- يقول الله تعالى: {أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ وَقُرْآنَ الْفَجْرِ} [الإسراء:78] هذه الآية تحدد مواقيت الصلوات الخمس، لدلوك الشمس يعني: زوال الشمس، إلى غسق الليل يعني: منتصف الليل، وقرآن الفجر يعنى: صلاة الفجر، فجاء الرسول صلى الله عليه وسلم بالبيان الكافي الشافي بالقول والفعل، فلما زالت الشمس صلى الظهر، وهذا هو دلوك الشمس، إلى غسق الليل -وطبعاً صلى العصر قبل الغروب فهذا وقت صلاة الظهر والعصر- ولما غابت الشمس صلى المغرب، ثم أخر العشاء في بعض الأوقات إلى ما قبل نصف الليل، ليبين أن هذا آخر وقت العشاء، فبدأ بدلوك الشمس وهو الزوال، وانتهى بغسق الليل، ثم صلى الفجر حين طلع الفجر فهذا قوله تعالى: {وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُوداً} [الإسراء:78] .
ومثله أيضاً في الحج: السعي بين الصفا والمروة فإن الله قال: {فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِ} [البقرة:158] وهذا يدل على أنه لا يحرم السعي بين الصفا والمروة أيضاً ولا يجب، لكن لما فعله الرسول صلى الله عليه وسلم علم أنه واجب، ولذلك قالت عائشة رضي الله عنها في الحديث السابق: {والله ما أتم الله حج امرئ ولا عمرته لم يطف بين الصفا والمروة} .
إذاً: كل أفعاله صلى الله عليه وسلم هي بيان للقرآن الكريم وكذلك أقواله، ولذلك ذهب من ذهب من أهل العلم كـ الشافعي إلى أن كل السنة إنما هي استنباط من القرآن الكريم، فهمها منه رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وبذلك نعلم أن القرآن والسنة متلازمان مترابطان، وأنهما لايفترقان إلى يوم القيامة، ولا يستغنى بأحدهما عن الآخر، وإنما تحدثت في هذا الموضوع لأشيد وأبين أهمية السنة في فهم كتاب الله تبارك وتعالى، وأنه لا يمكن أن نفهم القرآن إلا على ضوء السنة، وأعتبر أن هذه المحاضرة هي الدرس الثاني ضمن الدروس التي كنت وعدت بها سابقاً بعنوان: (دفاع عن السنة النبوية) وسبق أن ألقيت المحاضرة الأولى منها في حائل قبل نحو شهر وكانت بعنوان (دفاع عن السنة) وهى لبيان مكانة السنة النبوية في الإسلام، وهذا هو الدرس الثاني من هذه الدروس وهو لبيان تفسير السنة النبوية للقرآن الكريم.