الضرب الثالث: الذي تبين فيه السنة كتاب الله، هو أن السنة تكفلت ببيان أسباب نزول القرآن الكريم، ولا شك أن من يعلم بسبب نزول القرآن يكن أقدر على فهم الآيات، وربطها بسبب النزول، ومعرفة على أي وجه أنزلت، وأضرب لذلك بعض الأمثلة.
فمن أقوى الأمثلة على ذلك ما رواه البخاري ومسلم في صحيحيهما عن عروة بن الزبير أنه قال لخالته عائشة رضي الله عنها: يا خالة أو يا أماه -لأنها خالته وأمه في نفس الوقت، هي أمه أم المؤمنين وهي خالته فكان يقول لها: يا أماه أرأيت قول الله تعالى: {إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا} [البقرة:158] فوالله ما على أحد من جناح ألا يطوف بالبيت -هكذا يقول عروة وكان شاباً صغير السن كما يقول، قال: إن الآية تقول: ولا جناح أي لا إثم ولا حرج عليه أن يطوف بهما، ففهم كأن الآية تقول: لا مانع أن يطوف- فقالت عائشة: [[بئس ما قلت يا ابن أخي، إنه لو كان الأمر كما تقول لكانت الآية: {فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا)) وإنما كان هذا الحي من الأنصار في الجاهلية يهلون لمناة الطاغية التي يعبدونها بالمشكلة وهو صنم يعبدونه بالجاهلية، فكان من أَهَلَّ لمناة يتحرج أن يطوف بين الصفا والمروة، فلما جاء الإسلام سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم أي قال الأنصار لرسول الله: يا رسول الله نحن كنا في الجاهلية -معشر الأنصار- لا نسعى بين الصفا والمروة- كل من أحرم وأهل بمناة عادة ودين لا يسعى بين الصفا والمروة، فبين الله عز وجل أن هذا دين باطل وأن كل إنسان يسعى بين الصفا والمروة]] قال عروة: فحدثت بذلك، حدث به أبا بكر فقال أبو بكر بن الحارث: والله إن هذا لعلم، وقد حدثني من سمعت من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم أن بقية الصحابة -غير الأنصار- كانوا في الجاهلية يطوفون بين الصفا والمروة، فلما جاء الإسلام تحرجوا أن يطوفوا بينهما؛ لأنه أمر كانوا يفعلونه في الجاهلية فتحرجوا أن يفعلوا في الإسلام شيئاً كانوا يفعلونه ف الجاهلية، فنزل قول الله تعالى: {فَلا جُنَاحَ)) أي: لا حرج عليه أن يطوف بهما.
إذاً الآية نزلت للأمرين كلاهما، نزلت تقول للأنصار: طوفوا بين الصفا والمروة خلافاً لما كنتم تفعلونه في الجاهلية يوم كنتم تهلون لمناة، ونزلت تقول للمهاجرين ولسائر المسلمين: طوفوا بين الصفا والمروة كما كنتم تطوفون بهما في الجاهلية، لأن هذا من شعائر الله وليس من عادات الجاهلية.
إذاً معرفة سبب النزول هاهنا تبين معنى الآية بياناً شافياً.
مثله أيضاً قوله تعالى: {لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلاً مِنْ رَبِّكُمْ فَإِذَا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ} [البقرة:198] ما المقصود بالفضل؟ يشمل الدعاء، والذكر، والأجر، فالآية شاملة جامعة لهذا كله، لكن من معاني الفضل: التجارة في الحج، وقد جاء عن ابن عباس رضي الله تعالى عنه كما في البخاري أنه قال: كانت العرب في الجاهلية لها أسواق عكاظ، ومجنة، وذي المجاز، فكانوا يتاجرون بها، فكان الرجل يذهب للتجارة وللحج فتحرجوا من ذلك، فسألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال الله تعالى: {لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلاً مِنْ رَبِّكُمْ} [البقرة:198] أي: لا مانع أن يذهب الإنسان للحج ويتاجر في الحج، يكون قصده الحج وأيضاً بهدف التجارة في الحج، لا مانع من ذلك، فبين سبب النزول معنى الآية.
ومثله قوله تعالى: {لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَنْ تَقُومَ فِيهِ فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ} [التوبة:108] ما المقصود بالتطهر؟ ثبت عند أبي داود والترمذي من حديث أبي هريرة، وعند غيرهما من حديث عويمر بن ساعدة، وهو حديث صحيح بمجموع طرقه أن هذه الآية نزلت في أهل قباء، وأن النبي صلى الله عليه وسلم سألهم فقال: {إن الله يثني عليكم يا أهل قباء، فماذا تصنعون؟! قالوا: يا رسول الله إنا نجاور هذا الحي من اليهود وكانوا يتطهرون فيستنجون بالماء، -يستخدمون الماء في الاستنجاء- قال: بهذا أثنى الله عليكم} وهناك رواية مشهورة {أنهم كانوا يتبعون الحجارة بالماء} عند البزار وهذه رواية ضعيفة جداً، ليست صحيحة، وليس المقصود أنهم كانوا يتبعون الحجارة بالماء أي: يستنجون بالحجارة ثم بالماء، بل كانوا يستنجون بالماء ليس بالحجارة.
مثله قوله تعالى: {يَوْمَ يُسْحَبُونَ فِي النَّارِ عَلَى وُجُوهِهِمْ ذُوقُوا مَسَّ سَقَرَ * إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ} [القمر:48-49] هذه الآية يستدل بها أهل السنة والجماعة على إثبات القدر، وأن كل شيء بقدر وقضاء من عند الله تعالى، وقد رأيت بعضاً من ينكر ذلك ويقول: إن معنى الآية خلقناه بقدر، يعني مقدراً مفصلاً مناسباً لأوانه ووقته وزمانه، وهذا لا مانع أن يكون جزءاً من معنى الآية، لكن أيضاً بقدر يعني مكتوباً عند الله تعالى، والذي يفصل هذا ويبين المعنى الصحيح للقدر هو ما رواه مسلم في صحيحه عن أبي هريرة في سبب نزول هذه الآية: {أن المشركين جاءوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يخاصمونه في القدر، فنزلت هذه الآية} .