الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وأصحابه ومن والاه.
مضى في حلقات عديدة الكلام عن عيب من عيوب طالب العلم في هذا العصر، وهو إيثار اعتزال الناس وتجنب مخالطتهم، واستطرد الحديث عن هذا الموضوع إلى ذكر مواقف علماء السلف رضي الله عنهم، وكيف كان الفرد منهم قيماً على المجتمع، آمراً ناهياً مصلحاً، واستعرضت في المجلس السابق، أو أشرت إلى واقع الناس اليوم، وما هم فيه من التلاوم، وأن الناس والعامة يلومون العلماء، وكذلك بعض العلماء أو طلاب العلم يلومون العامة، وأن الواجب على كل إنسان أن يتجه باللوم إلى نفسه، وأن يحرص على أن يقوم بالدور الذي يوجبه عليه كونه مسلماً.
وذكرت جانباً من عناية أهل البدع بعلمائهم -إن صح أنهم علماء- وتعظيمهم لهم، وإظهارهم للناس إجلالاً لهؤلاء الأئمة، وأضيف في ذلك القصة الطريفة التي ذكرها ابن السبكي في الطبقات في ترجمة العز بن عبد السلام، في الجزء الثامن من طبقات الشافعية، حيث ذكر أن هذا الإمام الجليل حين خرج من دمشق بعد أن أغضب الملك الصالح إسماعيل، مشى حتى وصل إلى بيت المقدس، فخرج الملك الصالح إسماعيل ومعه بعض حاشيته إلى بيت المقدس، وأمروا بسجن العز بن عبد السلام، فسجن في خيمة بجوراهم، ففي أحد المرات كان الملك الصالح إسماعيل جالساً في خيمته، ومعه وفد من الصليبيين، وإلى جوارهم خيمة أخرى فيها العز بن عبد السلام.
فكان العز يتمتم ويقرأ القرآن الكريم، فسمعه من في الخيمة الأخرى، فقال له الصليبيون: ما هذا الصوت الذي نسمع؟ قال: هذا صوت فلان وهو أحد العلماء الذين عارضوني حين حالفتكم وسلمتكم هذه الحصون والقلاع فسجنته، وكأنه يتقرب إليهم بذلك ويريد أن يبين لهم جانباً من التضحيات التي بذلها في سبيل موالاتهم ومناصرتهم.
لكن هؤلاء القوم قالوا له كلمة تجرح قلبه إن كان له قلب، قالوا له: لو كان هذا القسيس عندنا لغسلنا رجليه، وشربنا مرقتها، تعظيماً له، وبعد فترة كأن الصالح إسماعيل أراد أن يسترضي العز بن عبد السلام، فبعث إليه رجلاً يقول له: لو ذهبت إلى الصالح إسماعيل واعتذرت منه وقبلت رأسه؛ لعله أن يصفح عنك ويعيدك إلى دمشق، فضحك العز بن عبد السلام ضحكة الساخر، وقال: أنتم مساكين، أنتم في واد وأنا في واد آخر، والله الذي لا إله إلا هو إني لا أرضى أن يأتي الصالح إسماعيل نفسه ليقبل رأسي، فكيف أذهب أنا لأقبل رأسه، فدعوني وما أنا فيه.
هذا أيضاً جانب أو قصة تدل على إظهار هؤلاء النصارى وتبجيلهم وتعظيمهم لقساوستهم، وبطارقتهم، ورجال دينهم، وأنهم يتعمدون إظهار هذا الأمر للمسلمين من باب الإحباط، وإشعارهم بأننا على حال أحسن مما أنتم عليه.