على سبيل المثال: يذكر المترجمون المنذر بن سعيد البلوطي وهو من شيوخ المالكية، ويذكر مترجموه أن له ميلاً إلى علم الكلام، وكأنه متأثراً ببعض أراء أهل الكلام، ولكن الشاهد من حياته أن الرجل كان قوياً في الحق، وكان ذو علاقة بالمجتمع وبالسلاطين في عصره، ليست علاقة استجداء، وإنما هي علاقة قوامة وأمر ونهي، فأحد ولاة الأندلس وأظنه عبد الرحمن الناصر، بنى قصراً فخماً مشيداً وزينه بالذهب والفضة، وأسرف فيه أيما إسراف، ثم دعا الوزراء والحاشية والعلماء وغيرهم، فنظروا في هذا القصر والكل يثني ويمجد.
فحضر المنذر بن سعيد لصلاة الجمعة، وكان الخليفة يصلي معه، وتحت منبره، فوقف المنذر بن سعيد رحمه الله، وألقى خطبة عصماء تلا فيها قول الله عز وجل: {وَلَوْلا أَنْ يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً لَجَعَلْنَا لِمَنْ يَكْفُرُ بِالرَّحْمَنِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفاً مِنْ فِضَّةٍ وَمَعَارِجَ عَلَيْهَا يَظْهَرُونَ * وَلِبُيُوتِهِمْ أَبْوَاباً وَسُرُراً عَلَيْهَا يَتَّكِئُونَ * وَزُخْرُفاً وَإِنْ كُلُّ ذَلِكَ لَمَّا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةُ عِنْدَ رَبِّكَ لِلْمُتَّقِينَ} [الزخرف:33-35] .
ثم قال يخاطب الخليفة ويوبخه على ما فعل: ما كنت أظن أن يبلغ بك الشيطان إلى ما بلغ حيث أنزلك منزل الكافرين، فتشبهت بفرعون وهامان وقارون، وأسرفت في الأموال، وضيعت أموال المسلمين، وفعلت وفعلت، وخنت الأمانة التي أمنك الله عليها، وأهملت شأن الرعية، وظل يورد على السلطان من القول المتين القوي، والسلطان تحت منبره فما زاد السلطان على أن أقسم ألا يصلي معه مرةً أخرى، وذهب إلى مسجد آخر ليصلي معهم، ثم إنه كفر عن يمينه ورجع ليصلي مع هذا الخطيب، وهذا الموقف في أذهان الكثير منا أقرب ما يكون إلى الخيال والأسطورة.