الفرق بين غربة الحنفاء في الجاهلية وغربة النبي صلى الله عليه وسلم

وهنا أريد أن أشير إلى قضية مهمة جداً، وهي قضية: الفرق بين غربة الحنفاء في الجاهلية وبين غربة النبي صلى الله عليه وسلم.

إن الحنفاء في الجاهلية، لم يكونوا يطمعون بإصلاح الأوضاع، ولم يكونوا يملكون منهجاً للتغيير والدعوة إلى الله عز وجل، بل قد قنعوا بصلاح أنفسهم، ونجاتها من الشرك والكفر في الدنيا، ونجاتها من العذاب في الآخرة، ويئسوا يأساً مطلقاً من إصلاح الناس، فهم مثل الشمس التي قد قاربت الغروب، فبقيت أشعتها الباهتة في أعالي النخيل، وعلى رءوس الأبنية المرتفعة أشعة صفراء، وما هي إلا دقائق حتى تغرب وتنتهي.

أما غربة محمد صلى الله عليه وسلم، فكانت غربة بداية؛ فهي تشبه أشعة الشمس في أول طلوعها، وإن كانت أشعة قليلة لا تبرز إلا في أعالي الأبنية والنخيل؛ إلا أنها سرعان ما ترتفع حتى تشمل بأشعتها وأنوارها الدنيا كلها.

إذاً: لم يقنع الرسول صلى الله عليه وسلم بترديد أنه غريب، وأن الناس على منهج مخالف لمنهجه، ودين مخالف لدينه، ويقف عند هذا الحد! بل قام يدعو إلى الله عز وجل بكل وسيلة، حتى التف حوله بعض الصالحين من قريش، واحد واثنان وثلاثة وأربعة، وكانوا قلائل، حتى كان الواحد منهم يقول: إني يوم أسلمت، كنت ثلث الإسلام، كنت ربع الإسلام، كنت خمس الإسلام، كنت سدس الإسلام، كل هذا ثبت عن بعض الصحابة الذين تقدم إسلامهم.

كان الواحد منهم يقول: إنه ثلث الإسلام؛ لأنه لا يوجد إلا مسلمان وهو ثالثهم، وآخر يقول إنه ربع الإسلام، بمعنى أنه يوجد في الدنيا ثلاثة هو رابعهم.

ولما سأل عمرو بن عبسة رضي الله عنه، النبي صلى الله عليه وسلم، كما في صحيح مسلم وغيره: {من معك على هذا الأمر -يعني الإسلام- قال: حر وعبد} .

أما الحر فهو: أبو بكر، أو علي بن أبي طالب وأما العبد فهو: بلال، هذا على القول بأن المقصود، حر يعني: فرد واحد، وعبد يعني: فرد واحد.

لكن هناك معنى آخر، ذكره ابن كثير رحمه الله: أن يكون المعنى من الأساليب، التي سلكها الرسول صلى الله عليه وسلم للتعمية على أعداء الدعوة فأعطى هذه اللفظة المحتملة يعني أن معه جنسان: جنس الأحرار وجنس العبيد، وعلى هذا لا إشكال، فيدخل في الأحرار أبو بكر، وعلي بن أبي طالب وغيرهم ممن تقدم إسلامهم، كـ زيد بن حارثة، ويدخل في العبيد بلال، وعمار وغيره أيضاً، ممن تقدم إسلامه.

وعلى أي حال فقد كان عدد المسلمين أفراداً يعدون على الأصابع، ولكنهم أيضاً كانوا يحملون هَمَّ الدعوة في نفوسهم، ولذلك ما مر إلا سنوات قليلة حتى أسلم الأنصار، وهاجر الرسول صلى الله عليه وسلم إلى المدينة، وأقام الدولة ودفع الغربة.

ثم ما هي إلا سنوات حتى انفضت الأحزاب التي هاجمت المدينة فقال النبي صلى الله عليه وسلم: {الآن نغزوهم ولا يغزونا} .

وانتقل صلى الله عليه وسلم إلى مرحلة الهجوم من مرحلة الدفاع، وما هي إلا سنوات قليلة حتى خرج الرسول صلى الله عليه وسلم بجمع غفير صوب مكة، فذهب وفتحها ودخل وعلى رأسه المغفر، وأصبحت الجزيرة العربية كلها للحكم المتبع للإسلام، لأنهم كانوا يتربصون بإسلامهم إسلام قريش.

فلما فتحت مكة وأسلمت قريش بدأ الناس يدخلون في الإسلام أفواجاً، وحصل ما يسمى بعام الوفود، الذي أرسلت فيه القبائل العربية وفودها، تبايع الرسول صلى الله عليه وسلم على الإسلام.

ولم يمت صلى الله عليه وسلم، حتى أقر الله عز وجل عينيه برؤية هذا الدين، الذي بعث به ظاهراً ظافراً منتصراً، وحتى رأى صلى الله عليه وسلم هذه العصابة الضعيفة التي كان يخاف عليها صلى الله عليه وسلم من الاستئصال حين كان يقول في بدر: {اللهم إن تهلك هذه العصابة لا تعبد في الأرض} أقر الله عز وجل عينه برؤية هذه العصابة وهي التي تحكم الجزيرة العربية وتستعد للانقضاض على صروح الكفر، في الشام والعراق وغيرها من بلاد الأرض.

إذاً غربة النبي صلى الله عليه وسلم، غربة البداية، غربة الداعية الذي يحمل منهجاً للإصلاح ويرتب للدعوة، ويرفع راية التوحيد، ويدعو الناس إليها.

طور بواسطة نورين ميديا © 2015