ومن المواعظ لله تعالى في قلب ابن آدم ذكر الجنة والنار، فإنهما المصير والقرار، قال الله تعالى: {وَقُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ} [الكهف:29] من شاء آمن ومن شاء كفر، ولكن عليه أن يعلم أن هذا الاختيار، وهذا القرار، له ما بعده، ولهذا أعقب بقوله: {إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ نَاراً أَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا وَإِنْ يَسْتَغِيثُوا يُغَاثُوا بِمَاءٍ كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوُجُوهَ بِئْسَ الشَّرَابُ وَسَاءَتْ مُرْتَفَقاً} [الكهف:29] ثم قال سبحانه: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ إِنَّا لا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلاً * أُولَئِكَ لَهُمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهَارُ يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَيَلْبَسُونَ ثِيَاباً خُضْراً مِنْ سُنْدُسٍ وَإِسْتَبْرَقٍ مُتَّكِئِينَ فِيهَا عَلَى الْأَرَائِكِ نِعْمَ الثَّوَابُ وَحَسُنَتْ مُرْتَفَقاً} [الكهف:30-31] .
نعم، إليك الاختيار، ولكنه اختيار أنت مسئول عن عواقبه، وليست المسألة صفقة تجارية، غايتها أن تخسر شيئاً من المال، ولا المسألة مغامرة يمكن أن تموت فيها، لا، بل هي الجنة أبداً، أو النار أبداً ربح النفس أو خسارتها، وأي خسارة أعظم من أن يخسر الإنسان نفسه التي بين جنبيه! قال تعالى: {إِنَّ الْخَاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ} [الشورى:45] .
وعن أبي هريرة رضي الله عنه وأرضاه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {أوقد على النار ألف سنة حتى ابيضت، ثم أوقد عليها ألف سنة حتى احمرت، ثم أوقد عليها ألف سنة حتى اسودت فهي سوداء مظلمة} رواه مالك والترمذي وغيرهم، وعن ابن مسعود رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال والحديث في مسلم: {يؤتى بجهنم يوم القيامة تقاد بسبعين ألف زمام مع كل زمام سبعين ألف ملك يجرونها} .
أي: جسم يتحمل هذا العذاب الشديد! هذا الجسم الرخو، اللين، الغض النظيف، الذي تحاذر منه النسمة الحارة، الألم البسيط، لا طاقة له بمقاساة أهوال النار والسعير، تقول: هذا حديث قد يصح وقد لا يصح، أقول لك: هو حديث صحيح، وفي القرآن {وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ نَارُ جَهَنَّمَ لا يُقْضَى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا وَلا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ مِنْ عَذَابِهَا كَذَلِكَ نَجْزِي كُلَّ كَفُورٍ * وَهُمْ يَصْطَرِخُونَ فِيهَا} [فاطر:36-37] تسمع هذه الآية كأنك تسمع أصوات تضاغيهم في النار: {رَبَّنَا أَخْرِجْنَا نَعْمَلْ صَالِحاً غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ وَجَاءَكُمُ النَّذِيرُ فَذُوقُوا فَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ} [فاطر:37] {إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ سَلاسِلا وَأَغْلالاً وَسَعِيراً} [الإنسان:4] .
وبالمقابل الاختيار الآخر عاقبته الجنة، أدنى أهل الجنة منزلة -كما في الصحيح- من له الدنيا وعشرة أمثال الدنيا، فإن لك الدنيا وعشرة أمثالها: {يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤاً وَلِبَاسُهُمْ فِيهَا حَرِيرٌ * وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ إِنَّ رَبَّنَا لَغَفُورٌ شَكُورٌ * الَّذِي أَحَلَّنَا دَارَ الْمُقَامَةِ مِنْ فَضْلِهِ لا يَمَسُّنَا فِيهَا نَصَبٌ وَلا يَمَسُّنَا فِيهَا لُغُوبٌ} [فاطر:33-35] {لا يَذُوقُونَ فِيهَا الْمَوْتَ إِلَّا الْمَوْتَةَ الْأُولَى} [الدخان:56] نعيم، وحرير، وصحاف، ودر، ونعيم ما تجلى لقلب بشري، أو دنا منه فكر! من الناس من يذكر الجنة ومن يذكر النار، ولكنه يذكرها ليبكي فقط، فإذا ذكرت النار بكى وأعول، وتعوذ بالله منها، وإذا ذكرت الجنة بكى وسأل الله تعالى الجنة، ولاشك أن هذا وذاك مشروع، فإن الله تعالى ذكر النار لنتعوذ منها، وذكر الجنة لتسألها كما أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يتعوذ بالله من النار، ولما قال الأعرابي: {يا رسول الله إني لا أحسن دندنتك ولا دندنة معاذ! ولكني أسأل الله الجنة وأعوذ به من النار، قال النبي صلى الله عليه وسلم: حولهما ندندن} فهو يسأل الله تعالى الجنة ويعوذ به من النار.
ولكن تأمل في منهج القرآن في ذكر الجنة والنار، تجد أن ذكر الجنة والنار غالباً يكون في سياق الأوامر والنواهي، فيذكر الأمر ثم يتوعد على تركه، ويذكر النهي ثم يتوعد على فعله، فيعد المؤمنين ويوعد المخالفين، وينبغي للعبد أن يدرك أن ذكره للجنة والنار ينبغي أن يكون كذلك، فلا معنى لأن تبكي عند ذكر الجنة والنار وأنت ترابي، أو تبكي وأنت تسرق، وتظلم، وتكذب، فأي شيء في هذا! إذا لم يكن ذكر الجنة والنار واعظاً يردعك عن المعصية، ويحثك على الطاعة، فأي معنى لحقيقة الإيمان في قلبك إذاً، نعم نحن لا نحجر واسعاً، رحمة الله تعالى واسعة، والأمر كما قيل: ولا يرهب ابن العم والجار سطوتي ولا أنثني عن صولة المتهددِ وإني وإن أوعدته أو وعدته لمنجز إيعادي ومخلف موعدي فإن الله تعالى قد يعفو عن الذنب، لكن ما الذي أدراك أنك ممن عفا الله تعالى عنهم؟! ما الذي يؤملك أن تكون ممن أخذهم الله تعالى بذنوبهم؟! إما لأنك تهاونت بالذنب، أو لأنك أصررت عليه، أو لأنك كنت بموقع لم يكن منك مقبولاً بحال، أو لغير ذلك من الأعمال، أو لأنه ليس لديك أعمال صالحة تكافئك، ما الذي يؤملك أن يختم الله تعالى لك بخاتمة سوء، على معصية فعلتها، أسررت بها أو أعلنت؟!