أولها وأعظمها: معرفة الله -جل وعلا- فكيف يعصي الله تعالى من عرفه وهو يعلم أنه مطلع عليه؟! كيف يخالف أمره وهو يتقلب في نعمته؟! كيف يخالفه إلى معصيته وهو يعلم أنه صائر إليه واقف بين يديه؟! فيا عجباً كيف يعصى الإله؟! أم كيف يجحده الجاحدُ؟! ولله في كل تحريكةٍ وفي كل تسكينةٍ شاهدُ وفي كل شيء له آيةٌ تدل على أنه الواحدُ أسماؤه تعالى، وصفاته، وأفعاله، منها ما يوجب الخوف منه فهو الجبار، المنتقم، القوي، العزيز، قال تعالى: {وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ} [هود:102] {لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ يَعْمَلْ سُوءاً يُجْزَ بِهِ وَلا يَجِدْ لَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيّاً وَلا نَصِيراً} [النساء:123] فيتذكر العبد أن الله -تعالى- شديد العقاب، جبار يأخذ من عصاه أخذ عزيز مقتدر.
ومن أسمائه، وصفاته، وأفعاله، ما يوجب الرجاء فيما عنده، فهو سبحانه الرحمن الرحيم، وتعرف إلى عباده بذلك، فالمسلم يقول في كل مناسبة: بسم الله الرحمن الرحيم، وهو الغفور الودود، فلا ييأس من رحمة الله تعالى قط {وَمَنْ يَقْنَطُ مِنْ رَحْمَةِ رَبِّهِ إِلَّا الضَّالُّونَ} [الحجر:56] .
ومن أسمائه، وأفعاله، وصفاته، ما يوجب محبته لإحسانه إلى خلقه، وتعطفه، وتحننه إليهم، وحلمه وصفحه عنهم، وعدم معاجلته لهم بالعقوبة، بل هو سبحانه ينزل عليهم من الخير، والبر، والعطاء، في الوقت الذي ترتفع إليه سبحانه منهم المعاصي والذنوب! ولهذا جاء في الحديث القدسي: {إني والأنس والجن لفي نبأ عجيب أخلق ويُعبد غيري، وأرزق ويُشكر سواي! خيري إليهم نازل وشرهم إلي صاعد} .
فإذا عرف الإنسان ربه بأسمائه، وصفاته، وأفعاله؛ اجتمع في قلبه محبة الله تعالى فلا مكان في قلبه للعشق الحرام، وخوفه سبحانه! فلا مكان في قلبه لخوف غير الله، ولا مكان في قلبه للمعاصي الكبار، وهو يخاف الله تعالى، واجتمع في قلبه الرجاء فيما عنده، فلا ينقطع حبل رجائه بربه، فيجتمع الحب والخوف والرجاء، ولهذا قال بعض السلف: [[من عَبَدَ الله تعالى بالحب وحده فهو زنديق، ومن عبد الله تعالى بالرجاء وحده فهو مرجئ، ومن عبد الله تعالى بالخوف وحده فهو حروري، ومن عبد الله تعالى بالحب والرجاء والخوف فهو مؤمن موحد]] .
ليس العجب من الكافر الذي لا يعرف الله تعالى أن يعصيه، بل العجب كل العجب من المؤمن العارف بربه الذي يقرأ في القرآن أسماء الله تعالى، وصفاته، ويردد صباح مساء قوله تعالى: {هُوَ اللَّهُ الَّذِي لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ * هُوَ اللَّهُ الَّذِي لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلامُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّرُ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ * هُوَ اللَّهُ الْخَالِقُ الْبَارِئُ الْمُصَوِّرُ} [الحشر:22-24] ثم يخالف إلى معصية الله تعالى! 1- لماذا الحق نتركه والباطل نفعله؟ سأل بعضهم: لماذا اعتقادنا صحيح، وفعلنا بطئ؟! نعرف الحق ونتركه، ونعرف الباطل ونفعله؟ فأجاب بعض أهل العلم أن ذلك لثلاثة أسباب: أولها: رؤية الهوى العاجل، والشهوة الحاضرة، فإنها تطغى على القلب حتى تشغل الفكر عن التفكير فيما يجنيه الفعل من العواقب الوخيمة.
الثاني: التسويف بالتوبة، ولهذا قال بعض السلف: [[أنذرتكم سوف]] سوف أقوم، سوف أعمل، سوف أصوم، قال الله تعالى: {وَغَرَّتْكُمُ الْأَمَانِيُّ حَتَّى جَاءَ أَمْرُ اللَّهِ وَغَرَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ} [الحديد:14] التمني: الأمل {يكبر ابن آدم، أو يشب ابن آدم، وتشب معه خصلتان، حب الدنيا، وطول الأمل} .
يريد الفتى طول السلامة جاهداً فكيف يرى طول السلامة يفعل التسويف: وما حال المسوف إلا كحال إنسان خرج وهو في سن الأربعين من بيته إلى المسجد، فوجد في الطريق شجرة، فقال: أقطعها لأزيلها عن طريق الناس، فحاول فوجدها صعبة، فتركها، وقال: أعود إليها غداً، ونسي هذا الإنسان أنه إذا عاد إليها غداً سيجد أن قوته قد ضعفت، وأن الشجرة زادت قوة، ورسوخاً، وعمقاً في التربة.
فهكذا المعصية إذا تركتها اليوم ولم تتب منها الآن، وقلت: أتوب غداً؛ فأنت غداً إيمانك يضعف، والمعصية تترسخ وتتعمق في قلبك، ويعز عليك تركها.
السبب الثالث: رجاء الرحمة: فنجد العاصي يقول: ربي رحيم، وينسى أنه شديد العقاب، وأن عذابه غير مأمون، فإنه سبحانه وتعالى شرع قطع اليد الشريفة في خمسة قراريط، فما يؤملك أن يعذبك غداً في الدار الآخرة! تصل الذنوب إلى الذنوب وترتجي درك الجنان بها وفوز العابدِ ونسيت أن الله أخرج آدماً منها إلى الدنيا بذنب واحدِ المسرف على نفسه يقول: ينبغي أن يذكر وهو يقول: ربي غفور رحيم بقول الله تعالى {نَبِّئْ عِبَادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ * وَأَنَّ عَذَابِي هُوَ الْعَذَابُ الْأَلِيمُ} [الحجر:49-50] وقول الله عز وجل عن الصالحين الصادقين أنهم كانوا يقولون: {إِنَّا نَخَافُ مِنْ رَبِّنَا يَوْماً عَبُوساً قَمْطَرِيراً} [الإنسان:10] وقولهم: {قَالُوا إِنَّا كُنَّا قَبْلُ فِي أَهْلِنَا مُشْفِقِينَ} [الطور:26] يعني خائفين من عذابه عز وجل، وجلين من عقوبته، وقوله سبحانه: {وَالَّذِينَ هُمْ مِنْ عَذَابِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ * إِنَّ عَذَابَ رَبِّهِمْ غَيْرُ مَأْمُونٍ} [المعارج:27-28] .
فلمن خلقت النار؟ ولمن نصب الصراط؟ إن من خاف في الدنيا أمن في الآخرة، ومن أمن في الدنيا خشي عليه أن يطول خوفه يوم الحساب، ولهذا جاء في الحديث المتفق عليه عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {سبعة يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله -وذكر منهم- رجلاً دعته امرأة ذات منصب وجمال فقال: إني أخاف الله} {وأَمَا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى * فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى} [النازعات:40-41] .
2- معنى إحصاء أسماء الله تعالى: من الناس من قد يعرف أسماء الله عز وجل فلو طلبت منه أن يعدها عليك لعدها، ولا ينكر شيئاً منها، ولكنها لا تؤثر في حياته، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول فيما رواه البخاري عن أبي هريرة: {إن لله تعالى تسعة وتسعين اسماً، مائة إلا واحداً، من أحصاها دخل الجنة} وقد جاء عَدُّ هذه الأسماء في حديث عند الترمذي وغيره، ولكنه ليس بقوي، فذكر النبي صلى الله عليه وسلم: {أن لله تسعة وتسعين اسماً من أحصاها دخل الجنة} ليس المقصود من عدها فقط، فإن الإنسان قد يحفظ القرآن، وقد يحفظ أسماء الله الحسنى، ومع ذلك كم قارئ للقرآن والقرآن يلعنه! ولكن المقصود بإحصائها أمر وراء ذلك، فمن إحصاء أسماء الله -تعالى- أن يحفظها ويعرفها، ومن إحصاء هذه الأسماء أن يعرف معانيها، فلو قلنا له: ما معنى القدوس؟ ما معنى السلام؟ ما معنى المؤمن؟ ما معنى المتكبر؟ ما معنى المهيمن؟ لعرف.
ومن إحصائها أن يؤمن بذلك إيماناً حقيقياً لا تحريف فيه، ولا تعطيل، ولا تغيير، ولا تبديل، ومن إحصائها أن يستحضرها في قلبه، وخاصة عند الطمع، والرغبة، أو الرهبة، أو عند الطاعة، أو المعصية فيستحضرها عند الطاعة ليقبل عليها، ويستحضرها عند المعصية فينكف عنها.
ومن إحصاء أسماء الله تعالى أن يدعو الله تعالى بها: {وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ} [الأعراف:180] فيقول يا رحيم! ارحمني، يا غفور! اغفر ليَ، وهكذا.
هذا وإن كان ينبغي أن لا يدعو إلا بما ثبت من الأسماء.
هذا واعظ الله عز وجل في قلب ابن آدم، فكيف يعصي الله من لله تعالى في قلبه تعظيم؟! وكيف يقصر في طاعته من يعلم أن الله تعالى يسمع ويرى؟! ولهذا قال الله تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم: {وَتَوَكَّلْ عَلَى الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ * الَّذِي يَرَاكَ حِينَ تَقُومُ * وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ} [الشعراء:217-219] فإذا تذكر العبد أن الله تعالى يراه {وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا} [الطور:48] .
إذا تذكر أن الله تعالى يراه في الطاعة صبر عليها، وعند المعصية أعرض عنها، وعند الابتلاء صبر طمعاً في رضوان الله جل وعلا، وأنت ترى الإنسان في هذه الدنيا لو كان يعاني أمراً من أمور الدنيا في وظيفة أو عمل، ثم وجد أن الرئيس ينظر إليه، وهو يتعب في هذا العمل، يحصل في قلبه فرح، وطرب، وانتعاش، ويحصل في نفسه سعادة أن الرئيس، وهو بشر مثله، اطلع عليه وهو يعاني أمراً من الأمور، ولو أن موظفاً عرضت عليه رشوة فرفضها، ثم اطلع عليه رئيسه على هذا الأمر، وعلم به لأصابه من السرور، والنعيم، والحبور شئ كثير، فكيف بالعبد إذا علم أن الله تعالى يراه والمعصية تناديه، وينكف عنها، ويقول: إنني أريد ما أريد لله تعالى؟