ثالث هذه المواعظ: هو ذكر الموت، وما بعده من العذاب أو النعيم في القبر، في سنن النسائي وغيره يقول النبي صلى الله عليه وسلم: {أكثروا من ذكر هادم اللذات} أي: الموت، فإنه يقطع اللذات عن الإنسان، والغريب في أمر الموت أن لا أحد ينكره، حتى الكفار يصرحون، ويقولون: {أَإِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَاباً} [المؤمنون:82] فهم يتصورون الموت، ويتصورون أنفسهم في القبور، وقد حالوا إلى التراب، ولعبت الديدان بأجسادهم، ولكنهم مع ذلك يصرون على ما هم عليه.
الغريب في الأمر أن الجميع يؤمنون به، ولكن قال: من يضعه نصب عينيه، ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح، عند أحمد وأصحاب السنن، من حديث علي رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {لا يؤمن عبد حتى يؤمن بأربع -وذكر منها - ويؤمن بالموت} والمقصود حينئذٍ أن يتحول اقتناعك العقلي، بأن الموت قادم إليك، أن يتحول إلى شعور قلبي، يدفعك إلى الطاعة، ويردعك عن المعصية.
قال بعض أهل العلم: أي عيش يطيب وليس للموت طبيب، وقال ابن مسعود رضي الله عنه: [[كفى بالموت واعظاً، وكفا باليقين غنى، وكفى بالعبادة شغلاً]] وقال الحسن البصري: [[ما رأيت يقيناً أشبه بالشك من يقين الناس بالموت على غفلتهم عنه، ولا رأيت صدقاً أشبه بالكذب من حب الناس الجنة مع تركهم لعملها]] .
1- حال السلف مع الموت: كان عمر بن عبد العزيز -رحمه الله- أميراً مرفهاً، حسن البزة، حسن الثياب، فلما ولي الخلافة وكان ذا نفس طموحة، طمح إلى الجنة فجعل الدنيا تحت قدميه، وأقبل على الآخرة، فكان يكثر من ذكر الموت، فإذا نظر إلى جسمه قال: " فكيف رأيته بعد ثلاث حينما يوسد في قبره " فعرف الناس منه ذلك، فلما كان يجول في الأمصار حضر بعض الشعراء، وكان من عادة الشعراء إذا وقفوا أمام الأمراء أن يشتغلوا بالمديح، والثناء، والقيل، والقال، ولكن عمر رضي الله عنه أنشأ مدرسة للشعراء تهتم بذكر الموت والآخرة، فوقف أمامه أحدهم يقول: وبينما المرء أمسى ناعماً جَذِلا في أهله معجباً بالعيش ذا أنقِ غراً أُتيح له من حينه عرضٌ فما تلبث حتى مات كالصعقِ ثمة أضحى ضحاً من غب ثالثة مقنعاً غير ذي روح ولا رمقِ يبكى عليه وأدنوه لمظلمة تغشى جوانبها بالترب والفلقِ فما تزودَّ مما كان يجمعه إلا حنوطاً وما واروه من خرقِ وغير نفحة أعواد تُشبُّ له وقل ذلك من زادِ لمنطلقِ فبكى عمر رضي الله عنه حتى أخضلت لحيته.
ومما يذكر بالموت مشاهدة المحتضرين، فأنت حين ترى الإنسان وهو يحتضر، فتتجمد أطرافه، وتشخص عيناه، وتتجمد حركته، فإنك ترى أمراً رعيباً، كان عمرو بن العاص رضي الله عنه يقول -وهذا الأثر عند الحاكم وغيره وهو صحيح- قال: [[وددت أن بعض المحتضرين يخبروننا خبر الموت وكيف يكون! فلما حضره الموت قال له ابنه عبد الله بن عمرو بن العاص: يا أبتِ! إنك كنت وأنت صحيح شحيح تقول: وددت أن بعض المحتضرين يخبروننا خبر الموت، فها أنت الآن محتضر فهلا أخبرتنا، فقال له: يا بني! إن أمر الموت أعظم من أن يوصف، ولكني سأقربه لك، أحس كأن جبل رضوى على عنقي شيء ثقيل، وأحس كأن جوفي يشاك بالسلاح، تختلف فيه الرماح والسيوف، وأحس كأن روحي تخرج من ثقب إبرة، ثم أقبل على الجدار يبكي -وهذا القدر الذي سأسوقه في صحيح مسلم- فقال له ابنه عبد الله: يا أبتِ ما يبكيك؟! أما بشرك رسول الله صلى الله عليه وسلم بكذا؟! فما زال به حتى أقبل عليه، فقال له: إني كنت على أطباقٍ ثلاث: كنت وأنا في الجاهلية لا أحد عندي أبغض من رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلو استمكنت منه حينئذٍ لقتلته، ولو مت على تلك الحال لكنت من أهل النار، ثم وضع الله الإسلام في قلبي فأتيت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت له: ابسط يدك أبايعك، فبسط يده، فقال: فقبضت يدي، فقال يا عمرو! بايع، قلت: يا رسول الله! أريد أن أشترط، قال: تشترط ماذا؟! قلت: أشترط أن يغفر لي، قال: بايع، أما علمت أن الإسلام يجب ما قبله، وأن التوبة تجب ما قبلها، وأن الحج يهدم ما قبله، قال: فبسطت يدي فبايعته، قال: فقذف الله حبه في قلبي حتى إني كنت لا أستطيع أن أملء عيني منه -كما في بعض الروايات- إجلالاً له صلى الله عليه وسلم، فلو مت على تلك الحال لرجوت أن أكون من أهل الجنة، ثم ولينا أشياء لا أدري ما حالي فيها! فإذا أنا مت فلا تصحبوني بنائحة، فإذا وضعتموني في قبري فانتظروا عند قبري، قدر ما تنحر جزور ويقسم لحمها، حتى أستأنس بكم وأنظر ماذا أراجع به رسل ربي]] .
2- زيارة القبور: ومما يذكر بالموت زيارة القبور، وفي الصحيح: {كنت نهيتكم عن زيارة القبور ألا فزورها فإنها تذكر بالآخرة} أتيت القبور فناديتها فأين المعظم والمحتقَرْ وأين المدل بسلطانه وأين العظيم إذا ما افتخرْ تفانوا جميعاً فلا مخبر وماتوا جميعاً ومات الخبر هذه القبور وإن كانت ساكنة إلا أنها ناطقة تقول: في داخلي الأكابر، والعظماء، والملوك، والزعماء، والعلماء، والتجار، والفجار، كلهم سواء! قبور مسنمة، لكن داخلها يختلف، فهذا روضة من رياض الجنة، وذاك حفرة من حفر النار، ولا أنيس فيه إلا العمل الصالح.
3- ملاحظات في ذكر الموت: وينبغي في موضوع ذكر الموت أن يفطن الإنسان لأمور: أولاً: أن مجرد ذكر الموت لا يكفي، بل ينبغي أن يكون ذكره واعظاً يدفعك إلى العمل الصالح.
ثانياً: الزيادة في ذكر الموت، والمبالغة في ذلك، حتى يقعد الإنسان عن العمل لا ينبغي، بل يكون الإنسان في ذلك معتدلاً، ويكون ذكره للموت لمناسبة، أي يربط ذكر الموت بأمور الدين والشريعة، فيذكر الناس بالموت ثم يحثهم على عمل الصالحات، أو يذكرهم بالموت، ثم ينهاهم عن المعاصي والموبقات، أما مجرد النياحة على النفس، والبكاء على الذات، والصياح على ما سوف يصيبه، وكثرة توصيف أحوال المحتضرين مثلاً، وتوصيف أحوال الموتى، وما يصيبهم في القبور، وما تكون إليه هذه الأجساد بعد البلى، وبعد أن تلعب بها الديدان، إلى غير ذلك، فهذا وحده لا يكفي، لأن هذا القدر مشترك.
ومما يُحْكَى أن رجلاً من التجار أصابته قرحة في جسده، حتى كدرت عليه عيشه، فبحث عن أطباء فلم يجد، فذكر له طبيب في الهند -ذكر هذه القصة الحميدي - فذهب إليه فوجد هذا الطبيب نحيفاً منجعفاً على سريره، فقال: أنت الطبيب! فقال: نعم.
ما بك؟ قال: بي هذه القرحة التي قد آذتني، وأسهرتني، وشوهت صورتي، فأريد أن تعالجها، قال: بماذا؟ قال: بما شئت، قال: بنصف مالك، قال: نعم، فأعطاه نصف ماله على أن يعالج هذه القرحة، فما زال هذا الطبيب به يعالجه حتى شفيت هذه القرحة، فذهب التاجر ينظر وجهه في المرآة فوجد القرحة قد زالت، ولكن بقي أثرها سواداً يشوه صورته، فرجع إلى الطبيب، فقال: لازال السواد باقياً، قال: ما على هذا قاولتك، ولكن قاولتك أن يزول الألم وقد زال بالكلية، فما زال يكلمه حتى اتفق معه على أن يزيل أثر القرحة بالنصف الثاني من ماله! فعالجه الطبيب حتى زال أثر هذه القرحة، فلم يبق معه مال، ثم قال له الطبيب: إنني لم أرد مالك، فأنا أزهد الناس به، وأغنى الناس عنه، وهاأنت تراني ما براني، وأضعف جسدي، إلا كثرة التأمل والتفكير في أمر هذه الدنيا وما بها، ولكنني أردت أن أعرف قدر نفسك عندك وقدر مالك، فقد عرفت أن نفسك أغلى عليك من مالك، قال: نعم، قال: فمن أي دين أنت؟ قال: من دين الإسلام، قال: وما دين الإسلام؟ فذكر له الإسلام، وأن المؤمنين والمسلمين يؤمنون بالدار الآخرة، والبعث بعد الموت، إلى غير ذلك، فتعجب هذا الرجل منه! وقال: إنني وأنا رجل لا أؤمن بهذا، أعجب ممن يبالغون في جمع الأموال! ويقبلون على الدنيا، ويجعلونها مرادهم وهمهم! فكيف وأنت تؤمن بدار الآخرة غير هذه الدنيا تشتغل بمثل ذاك؟! فرجع الرجل متعظا مزدجراً.
المقصود: أن الإيمان بالموت، وتذكر ما يصيب الميت، هذا أمر مشترك بين جميع أمم الدنيا، ولا يكفي، بل بالنسبة للمسلم ينبغي أن يربطه بأمر الدين، والتوحيد، والدعوة إلى الله عز وجل والجهاد في سبيله فيكون الموت مثلاً سبباً في إقباله على الجهاد، وقتاله للكفار، لا يخاف لأنه يرى أن الموت آتٍ لا محالة، وأن بعد الموت بعثاً.
ولهذا قال بعض السلف: [[إن الله تعالى لم يخلق الخلق للفناء، وإنما خلقهم للبقاء، وإنما هم ينتقلون من دار الضيق إلى دار السعة]] فيجب أن يكون ذكر الموت سبباً للإنجاز، لا سبباً للقعود، لا معنى أن يقول الإنسان: الموت آتٍ ولهذا أقعد عن طلب الرزق، لا اطلب الرزق وتاجر، وإذا اغتنيت، وأكثر الله أموالك، فانفقها في سبيل الله.
ولا معنى أن يقعد الإنسان عن طلب العلم ويقول: الموت آتٍ، لا، اطلب العلم، وتعلم، وعلم، واعمل حتى تدعى كبيراً في ملكوت السماوات، أما مجرد النياحة على النفس فهذا لا ينفع.