الأول: العقل، وهو غريزة يدرك بها الإنسان الأشياء، فيعرف بها الخطأ والصواب، والحق والباطل، والصحيح من غيره، وهو يميز الإنسان عن الحيوان، وبه امتن الله على العبد، ومع ذلك فإن هذا العقل قد يشطح أحياناً، ويتعدى حده إلى ما لا يحل ولا يجوز.
فالعقل: نعمة أنعم بها الله تعالى على الإنسان، ومن الأشياء التي قد يشطح إليها العقل مثلاً، أنه يفكر فيما لا يحل له، فيسترسل في النظر في أمور الغيب، كالتفكر في ذات الله عز وجل مع أن العبد لا يحيط بالله تعالى علماً، قال الله تعالى: {وَلا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْماً} [طه:10] وقال سبحانه: {وَلا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِمَا شَاءَ} [البقرة:255] .
فالعقل عاجز عن إدراك حقيقة أسماء الله تعالى، وصفاته، أو معرفة كنهها، وكنه ذاته كما قيل: العجز عن دراك الإدراك إدراكُ والبحث في ذاته كفر وإشراكُ ومثله التفكير في أمور الغيبيات التي لا يحيط بها الإنسان، بل يضيع العمر فيها في غير طائل وفي غير جدوى، بل هو باب يجر الإنسان إلى الضلال.
ومثله أيضاً أن العقل قد ينجر أحياناً إلى الشبهات التي تطرأ عليه، شبهة في أمر الإيمان بالله عز وجل، شبهة في أمر القضاء والقدر، وكيف كلفنا الله -تعالى- العمل والعبادة مع أنه قضى علينا، وقدر، وكتب؟ {إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ} [القمر:49] فيظل العقل غاصاً بهذه الشبهة، قلقاً فيها، ينام عليها، ويصحو عليها، وهي تسير معه حيث سار فيتعكر الصفاء، وتكثر الهموم، حتى لا يكاد الإنسان يطمع في الفكاك من هذه الشبهات، وقد يستمر العقل أحياناً في بحث مسائل ليس لها أهمية دينية أو دنيوية، فليس فيها سوى ضياع التفكير، ككثير من مباحث الفلاسفة الذين يضيعون الأعمار فيها، ثم يكون نهاية أحدهم كما يقول: نهاية إقدام العقول عقال وأكثر سعي العالمين ضلالُ وأرواحنا في وحشة من جسومنا وغاية دنيانا أذى ووبالُ ولم نستفد من بحثنا طول عمرنا سوى أن جمعنا فيه قيل وقالوا فهي علوم وأبحاث لا تقرب من الله عز وجل ولا تقرب إلى الجنة، ولا تباعد عن النار، ولا تنفع في الدنيا، فليست من العلم الذي ينتفع به الإنسان في دنياه، تيسيراً للسفر مثلاً، أو تيسيراً للاتصال، أو تيسيراً لعلم، أو تيسيراً للعمل، أو تيسيراً للعبادة، لا هذا ولا ذاك، وإنما هي من فضول العلم الذي لا ينفع في دنيا ولا في دين.
فيحتاج العقل حينئذٍ إلى وعظ يردعه، ويعالجه، ويقمعه، ويوقفه عند حده، فيقول له: قف لا تتعدى هذه الحدود التي حدها الله تعالى لك، فلا تغتر أيها العقل بقوتك وأنت الصغير، بل اشتغل فيما شرع الله تعالى لك، وفيما تعبدك فيه، ودع عنك ما سوى ذلك.