أما العنصر الثالث فهو الجسم: وهذا الجسم بأعضائه، وجوارحه، وقوته، هو مطية ذلول، يركبها العقل ويركبها القلب إلى ما يريدان، فإذا اقتنع العقل بشيء حرك إليه الجسم، وقال له: هلم إلى هذا المكان ففيه مصلحة لي في الدنيا أو في الآخرة، فيحرك الجسم إلى ما يرى، كأن يذهب الإنسان إلى إجراء عملية جراحية يعلم أنها مؤلمة، وأن فيها مشقة عليه، ولكنه يقتنع بعقله أن فيها مصلحة له، فالقلب يقول: أحجم، والعقل يقول: أقدم.
وكذلك إذا اشتهى القلب شيئاً حرك الجسم إلى ما يشتهي ويريد، كأن يقصد الإنسان المحبوبات في هذه الدنيا، وهي كثيرة من الملاذ بالنسبة لأهل الدنيا، فهو يركض إلى ما يحب من مأكل، أو مطعم، أو مشرب، أو منكح، أو غير ذلك، ومثله أيضاً الإقبال على الطاعات عند أهل الآخرة، فإنك تجد أحدهم وهو يسعى إلى عبادة، أو طاعة، أو صوم، أو ذكر، أو طواف، أو حج، أو عمرة، أو جهاد، يركض إليها ركضاً يخشى أن تفوته، مع أنه يعلم أنه ربما كان فيها عطيه، ولكن قلبه آمن أن هذا الطريق مرضاة لله عز وجل فأقبل عليه وهو يقول: رضيت في حبك الأيام جائرة فعلقم الدهر إن أرضاك كالعذب ولهذا جاء في الحديث المتفق عليه عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {كتب على ابن آدم حظه من الزنا، مدرك ذلك لا محالة، فالعين تزني وزناها النظر، والأذن تزني وزناها السمع، واليد تزني وزناها البطش، والرجل تزني وزناها المشي، والقلب يتمنى، والفرج يصدق ذلك أو يكذبه} .
فأنت ترى الآن أن مدار هذه الأشياء كلها على القلب، فإذا تمنى القلب نظرت العين، وأصغت الأذن، وامتدت اليد، ومشت القدم، ثم توقف الأمر على الفرج.
{فَأَمَّا مَنْ طَغَى * وَآثَرَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا} [النازعات:37-38] فإنه يقبل على شهواته لا يلوي على شئ، وهو يقول: عجل وتمتع بهذه الشهوات قبل الموت! أفق وصب الخمر أنعم بها واكشف خفايا النفس من حجبها وروي أوصالي بها قبلما يصاغ دن الخمر من تربها هكذا يقول الفاجر!! {فَأَمَّا مَنْ طَغَى * وَآثَرَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا} [النازعات:37-38] {وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى} [النازعات:40] فإنه وإن استرسل وراء نظرة خائنة، أو حركة عابثة، أو خطوة غير مدروسة، فإنه إذا جد الجد، وحزم الأمر، ووقف أمام الفاحشة الكبرى، تذكر وقوفه بين يدي الله عز وجل وتذكر نظر الله تبارك وتعالى إليه، فكف نفسه عن الهوى وأقلع.
ولهذا قال صلى الله عليه وسلم: {والفرج يصدق ذلك أو يكذبه} كان ذو الكفل كما في سنن الترمذي، ومستدرك الحاكم، ومسند أحمد وغيرهم، وهو حديث صحيح: {أن الكفل كان رجلاً مسرفاً على نفسه بالمعاصي، فأراد امرأة يوماً فأبت عليه، ثم أصابتها حاجة فجاءت إليه، وقالت: هلم على أن تعطيني حاجتي، فأعطاها مائة دينار، ثم قعد منها مقعد الرجل من امرأته، فارتعدت وبكت، فقال لها: ما يبكيكِ؟ قالت: هذا أمر ما فعلته قط، وإنما فعلته الآن للحاجة، فأقبل على نفسه يوبخها ويقول: أنا العبد الذي ما ترك معصية إلا ارتكبها لا أبكي، وهذه امرأة ما فعلت معصية قط تبكي لله عز وجل أنا أحق بالخوف منها، ثم قام من عندها معرضاً تائباً إلى الله عز وجل فمات من ساعته فأصبح مكتوباً على بابه (إن الله تعالى غفر للكفل) } .
{والقلب يتمنى؛ والفرج يصدق ذلك أو يكذبه} إذاً العين مطية، والأذن مطية، واليد مطية، والرجل مطية، والجسد كله مطية إلى ما يكون في هذا القلب من الأمنيات، والمطالب، والمقاصد، وما في هذا العقل من الأفكار، والقناعات، والآراء، هذا هو الجسم: يا خادم الجسم كم تسعى لخدمته أتعبت نفسك فيما فيه خُسران أقبل على الروح فاستكمل فضائلها فأنت بالروح لا بالجسم إنسان إن قوة الإنسان، وإنسانيته، وفضله، ومكانته، ليست بقوة جسمه، فالفيل والبعير أقوى منه، وليست بكثرة أيامه ولياليه، وطول عمره، فإن النسر، والفيل، أطول عمراً منه، وليست بشدة بطشه، فالأسد والنمر أشد منه بطشاً، وليست بلباسه وزينته، وحسن هيئته، وجميل مظهره، فالطاووس وهو يختال، والدراج أحسن لوناً، وجسماً منه، ولا بقوته على النكاح، فالعصفور قالوا: أقوى منه، ولا بكثرة الذهب، والفضة، والأموال، فالمعادن والجبال أكثر ذهباً وفضة.
لولا العقول لكان أدنى ضيغم أدنى إلى شرف من الإنسان فهكذا عرفت أيها الأخ الكريم! فضل العقل، وفضل القلب، وأن الجسم خادم، والغريب أن بعض الناس كل همه أن يشبع، ويروي، وينعم جسمه بجميل الثياب، وجميل المناظر، وجميل المطاعم، وجميل المشارب! فهو كمن يعلف دابته ثم يتركها مربوطة، لا يستخدمها في أمر ينفعه في دنيا ولا في دين! كان بعض السلف يأكل حلوى، فأقبل عليه أحدهم فعاتبه في ذلك، وقال: كيف تتوسع وتترفه في هذا المأكل؟! فقال: أعلفها حتى أحمل عليها، يقول: أعلف نفسي الآن لأحمل عليها.
فهو يتقوى بالطعام والشراب على ما يقربه إلى رب الأرباب.