فرق ثان: الرقابة الإلهية: فنحن نعلم أن من طبيعة الإنسان الظلم والأثرة، وكما قيل: والظلم من شيم النفوس فإن تجد ذا عفة فلعلة لا يظلم والله تعالى قد ذكر لنا قصة ابني آدم بالحق: {إِذْ قَرَّبَا قُرْبَاناً فَتُقُبِّلَ مِنْ أَحَدِهِمَا وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ الْآخَرِ قَالَ لَأَقْتُلَنَّكَ} [المائدة:27] إذاً من طبيعة الإنسان أنه قد يعتدي وقد يظلم، ولهذا كان ربط حقوق الإنسان بالدين صيانة عظيمة لهذه الحقوق.
يقول أحد الغربيين: لا توجد في الحكومات البشرية سوى قوتين ضابطتين: القوة الأولى: قوة السلاح، والقوة الثانية: قوة القانون -أي قوة النظام- فإذا تولى قوة القانون قضاة هم فوق الخلق وفوق الملامة فإن الأمر حينئذ على ما يرام، أما إذا لم يكن ذلك فإن قوة السلاح هي التي تسود حتماً، وذلك يؤدي إلى سيطرة النظم العسكرية المستبدة على الشعوب.
وأقول: هناك قوة ثالثة هي قوة الإيمان، أو ما يسمونه في الغرب "الضمير"، الخوف من الله عز وجل، ولذلك نجد أن الإنسان -بل كل الناس حتى غير المسلم- لم يجد من الحقوق التي يتمتع بها في ظل شريعة من الشرائع أو دولة من الدول مثلما وجد في دولة الإسلام وشريعة الإسلام، حتى قال " تومبي " وهو أحد المؤرخين البريطانيين قال: ما عرف التاريخ فاتحاً أرحم ولا أعدل من العرب، يعني المسلمين.
أبو عبيدة بن الجراح رضي الله عنه لما أخذ الجزية من أهل حمص، ثم رأى أنه قد لا يستطيع الدفاع عنهم، ماذا صنع؟ رجع إليهم ورد الجزية التي أخذ منهم، وقال مع ذلك: سوف ندافع عنكم ما استطعنا، فإن انتصرنا عدنا وأخذنا الجزية، وإن لم ننتصر لا نكون ظلمناكم، فهات مثالاً آخر مثل هذا في كل شرائع الدنيا وأنظمة الدنيا ودول التاريخ في غير شريعة الإسلام! لما فتح المسلمون سمرقند فتحوها قبل أن يدعوا أهلها إلى الإسلام، وقبل أن يطلبوا منهم الجزية، فبعث أهل سمرقند إلى الخليفة المسلم بالشام يشتكون إليه، وبعث الخليفة وطلب من الجيش المسلم أن يخرج من سمرقند ويظل خارجها ثم يعرض على أهلها الإسلام، فإن أبوا فالجزية، فإن أبوا استعان بالله تعالى وقاتلهم، وخرج الجيش المسلم الفاتح من سمرقند إلى مشارفها ثم دعوا أهلها إلى الإسلام فأسلموا عن آخرهم، وقالوا: دين هذا قدر الإنسان فيه، وهذه عدالته لابد أن ندخل فيه جميعاً! أما في النظم الوضعية فما ثَم جزاءً يذكر، لا يؤمنون بيوم الحساب فيمنعهم ذلك من الاعتداء على حقوق الناس، وفي الدنيا لهم ألف وسيلة وحيلة للتحايل والخروج من القوانين والعقوبات.
ففي الإسلام إذاً عقوبتان: العقوبة الأولى: الأخروية، وهي الأهم والأعظم، والرادع الأكبر في ضمير المسلم، إضافة إلى العقوبة الأخرى وهي: الدنيوية المتمثلة في الحدود والتعزيرات على الاعتداء على الإنسان كحد السرقة -مثلاً- أو حد القذف أو حد الزنا أو غير ذلك من الحدود.