كذلك تجد أن هذا العالم الرباني -لأن همه العمل بالعلم- تجد أنه يعتني بصلب العلم قبل طرائف العلم وفروعه وملحه وطرائفه البعيدة، التي قد تخفى على بعض كبار أهل العلم، مثلاً مصنفات جديدة، تتبع كل جديد من الكتب، هذا ليس لازماً لأن فيه من إضاعة الوقت الشيء الكثير، وبالمقابل قد لا يكون فيه أكثر من الطرفة والملحة والجمع، وقد يفتن الإنسان بجمع الكتب كما يفتن الآخر بجمع المال، ولا يستفيد منها علماً ولا عملاً، وإن كان الجمع المعتدل مطلوباً، والتخصص -أيضاً- في ذلك مطلوب.
ومثل ذلك الأغلوطات التي نهى الرسول صلى الله عليه وسلم عنها، وهي صعاب المسائل، فالتشاغل بها مهلكة، وأقول: بعض شباب الدعوة في بلاد إسلامية كثيرة أصغي إلى أسئلتهم أحياناً لساعات فأتعجب، وتأتيني أسئلة في البريد أحياناً، أو يسلمونني أوراقاً قد يكون فيها خمسين، أو ستين، أو سبعين سؤالاً أتعجب من بعض هذه الأسئلة وما فيها من التمحل، والتكلف، والتدقيق، والتنقية، فمعظم هذه المسائل من الأغلوطات التي نهى الله تعالى، ورسوله صلى الله عليه وسلم عنها.
وتتعجب من هذه العلوم، وهذه الأسئلة لم يقع عليها السلف الصالح، ولا أجابوا عنها، أو ما فهموها، أو لم تتهيأ لهم حتى انبرى لها هؤلاء، فكشفوها وسألوا عنها: {إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ} [ص:5] وقد تجد هذا الإنسان جاهلاً ببعض الأصول الكبار، وغير متعمق في علوم كان يجب أن يتعمق بها وأن يفهمها.
ولهذا يقول الإمام ابن الجوزي رحمه الله في تلبيس إبليس يقول: لو اتسع العمر لم أمنع من الإيغال في العلم -لو كان العمر متسعاً للوصول إلى منتهى العلوم- غير أن العمر قصير، والعلم كثير، فهذه ضعها في اعتبارك، كم ستقضي في طلب العلم؟ فالتشاغل بغير ما صح يمنع من التشاغل بما هو أهم منه.
ولما تشاغل يحيى بن معين فاته من الفقه الكثير يقول ابن الجوزي: ومن أقبح الأشياء أن تجري حادثة يسأل عنها شيخ أمضى ستين سنة في طلب الحديث فلا يعرف عنها شيئاً، وأقول: قد يكون ما تشاغل به يحيى بن معين مما ينفع الناس، ولكن غيره كثير تشاغلوا بما لا ينفع من الغرائب، والعجائب، والطرائف التي لا يحتاج إليها والتي تموت بموتهم.
ولهذا قيل في عيوب بعضهم -مثلاً-: أنهم أبحث الناس عن صغير وأتركهم لكبير، يبحث عن الصغائر، لكن قد تجده واقعاً في الكبائر، أعرف شخصاً ينقر في المسائل ويوالي ويعادي، ولكنه عاق لوالديه لا يبرهما، أي خير في هذه؟! وقيل في عيوب بعضهم: أعلم الناس بما لم يكن، وأجهلهم بما كان، فليس المقصود بالعلم المفاخرة، والمباهاة بالكلام، والتصنيف، والشهرة، والقيل والقال، بل المقصود العمل ديناً ودنيا.