أعتقد أن الحرية من أكثر الكلمات تداولاً على الألسنة، وهي كلمة بارقة يستخدمها الكثيرون على نطاق واسع، فكل من أراد أن يلفت أنظار الناس نادى بالحرية، وكل من أراد أن يحقق أمانيه أو أهواءه رفع شعار الحرية، ومع ذلك فإن كلمة الحرية هي من أكثر الكلمات غموضاً! أما المعنى الشرعي للحرية في الإسلام: فهي ضد الرق، ولا شك أن هذا المعنى غير مقصود الآن، وهو معنى آخر فالإنسان حر بمعنى أنه ليس رقيقاً مستعبداً هذا معنى آخر- وإنما الحرية تستخدم اليوم بمصطلح آخر مخالف لذلك تماماً، فمثلاً: حينما تتحدث مع شخص عن ملاحظة عليه في سلوكه أو أخلاقه، أو ملاحظة على ولده أو على زوجه، قال لك: يا أخي لا تتدخل في حريات الآخرين، دع هذا فمن باب الحرية الشخصية، أصبح الولد أحياناً يرفع شعار الحرية الشخصية ضد أبيه، وأصبح الإنسان المنفلت من القيود يرفع شعار الحرية الشخصية ضد جميع الإجراءات الأخلاقية والأعراف المرعية، ولذلك فلابد من وقفة عند هذه الكلمة البراقة "الحرية".
تقول بعض التعريفات: الحرية هي: حق الفرد في أن يفعل كل ما لا يضر بالآخرين.
إذاً: ليس هناك حرية في الدنيا مطلقة قط، لا عند المسلم ولا عند الكافر، ولا في أي قانون في الدنيا، إنما أكثر الناس توسعاً في الحرية -وهم الفرنسيون- يقولون لك: الحرية هي: حق الفرد أن يفعل ما لا يضر بالآخرين.
إذاً حريتك تنتهي حيث تبدأ حقوق الآخرين وحدودهم، فلك أن تتحرك في حدود ما لا يضر بالآخرين، وهنا لا بد أن نضيف: ولا يضر بنفسه أيضاً، ولا بد أيضاً أن نحدد الضرر بأنه يشمل الضرر الدنيوي، كأن يتعاطى الإنسان أكلاً أو شرباً أو لباساً لا يضر بدينه أو ماله أو صحته أو مكانته، وأيضاً يشمل الضرر الديني، الضرر الأخروي الذي يجعل الإنسان تحت طائلة المساءلة والعقاب أمام الله تعالى يوم الحساب.
فإذا كانت مسألة ما لا تضر بالإنسان ديناً ولا دنيا، ولا تضر بالآخرين أيضاً ديناً ولا دنيا فهنا يكون نطاق الحرية، ويكون الإنسان مأذوناً أن يتحرك ويعمل هذا الأمر، أمر مأذون له شرعاً فليس إثماً ولا حراماً، لا يضر بدينه وهو أيضاً لا يضر بدنياه، ولو تأملت لوجدت أن الضرر الدنيوي هو أيضاً محرم كما جاء في الحديث: {لا ضرر ولا ضرار} .
والحرية هي قرين الحق، فهما متلازمان في اصطلاح العديد من الفقهاء، وبذلك يتبين لك أن من المطلوب أن يتنازل الإنسان عن جزء من حقوقه الشخصية في مقابل عدم حرمان الآخرين من حقوقهم، إن هذا التنازل الجزئي منك أنت ليس تنازلاً بلا مقابل، بل أنت تفعل ذلك من أجل ألا تفاجأ يوماً من الأيام بأن الآخرين اعتدوا على حريتك الشخصية، فهذا هو ثمن الحياة الاجتماعية المشتركة بينكم، فالحريات أحياناً تتناقض.
فهذا صحفي -مثلاً- يصدر جريدة ويكتب فيها ما يقول مما يسيء إلى الدين وإلى الأخلاق وإلى فلان وإلى وإلى، ويقول: من حقي أن أكتب ما أريد، ومالك الجريدة أو الصحيفة يستطيع أن يمنع هذا الصحفي من الكتابة، ويقول له أيضاً: من حقي ألا ينشر في صحيفتي التي أملكها إلا ما أريد، والقارئ من حقه أن يرفض هذه الصحيفة تعاطياً وشراءً وتعاملاً، ويقول: من حقي ألا أشتري ولا أقرأ إلا ما أريد.
مثل آخر: الطريق (الشارع) هو مرفق عام يشترك فيه الجميع، فهو ملك للمجتمع وليس ملك لشخص بعينه، ومن حق كل إنسان يستفيد منه، لكن هذه الفائدة تتناقض عندما يستخدمها الإنسان بالأصوات المزعجة، أو يستخدمها -مثلاً- بالدعايات التي تضر بالآخرين وتغير عقولهم أو مفاهيمهم أو تسيء إليهم، وهذا سر من أسرار الحكم في الإسلام، فالحاكم في شريعة الله تعالى هو فرد اختاره الناس لكي ينظم لهم كيفية ممارسة الحقوق فيما بينهم بصورة صحيحة، وليس الحاكم وضع من أجل أن يصادر حقوق الناس.
فلا بد أن يتنازل الجميع عن قدر من الحقوق والمصالح الذاتية حفاظاً على ذلك العقد الاجتماعي العام.
فعلى سبيل المثال-أيضاً- من حق الحاكم أن ينظم كيفية الحصول على الطعام -مثلاً- في بيعه أو تعاطيه، أو الشراب، أو السيارات، أو الرخص للسير، أو السفر، أو الشهادة، أو غير ذلك، أو أن يرتب وينظم عملية المرور، أو ينسِق العمل الوظيفي ويضع له شروطاً إلى غير ذلك، لكن إذا تجاوز هذا الأمر حد التنظيم المطلوب للمجتمع إلى التعقيد وافتعال العقبات والصعوبات والمشكلات؛ كان ذلك عبئاً على الإنسان، يفترض أن يتجاوزه ويتعداه، أو أدى هذا إلى امتهان كرامة الإنسان، أو مصادرة رأيه بالضغط والتهديد بحيث يكون الطعام -مثلاً- أو الشراب أو الشهادة أو الوظيفة أو المال أو غيرها لا تحصل للإنسان إلا عن طريق التسول، أن يريق ماء وجه، ويخضع للضغط والتهديد ومصادرة الرأي، فحينئذ تصبح عبئاً ثقيلاً يسعى الإنسان للتخلص منه بقدر المستطاع.