قوله: "بسم الله الرحمن الرحيم" وقد اختلف أهل العلم: هل هذه الآية آية من الفاتحة، أم هي آية من القرآن، أم هي آية من كل سورة ولا أدخل في هذا الخلاف الفقهي؛ فربما سبق ذكر شيء منه في بعض الدروس، ولكن المقصود أن كل سورة في القرآن تبدأ "ببسم الله الرحمن الرحيم" وفي هذه السورة بالذات قال: {الْحمد لله رَبِّ الْعَالَمِينَ * الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} [الفاتحة:2-3] فأعاد هذين الوصفين العظيمين لله تعالى.
أ/ الله: ففي السورة إذاً ذكر أسماء الله عز وجل: أولها:"الله"وهو الاسم الأعظم لله عز وجل الذي تلحق به الأسماء الأخرى، ولا يشاركه في هذا الاسم غيره فلم يتسمَّ به أحدٌ قط! والله هو الذي تأله إليه القلوب بالمحبة والشوق والحنين، حتى إنك تجد المسلم يدعو الله تعالى بقوله كما قال الرسول صلى الله عليه وسلم: {وأسألك لذة النظر إلى وجهك الكريم، والشوق إلى لقائك} فمن جهة معاني هذا الاسم "الله" أن القلوب تأله إليه، أي تحن إليه وتشتاق إلى لقائه ورؤيته، وتأنس بذكره.
وأيضاً "الله" بمعنى الذي تحار فيه العقول، فلا تحيط به علماً، ولا تدرك له من الكنه والحقيقة إلا ما بَيَّنَ سبحانه في كتابه وعلى لسان رسوله صلى الله عليه وسلم، فلا تعلم كيفية ذاته سبحانه، ولا تحيط به العقول فتحار فيه، وإذا كانت العقول تحار في بعض مخلوقاته في السماوات والأرض والبر والبحر فكيف بذاته جل وعلا؟! فالعقل يرتد خاسئاً حسيراً عن إدراك ذات الله جل وعلا، ولهذا قال: {وَلا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْماً} [طه:110] حتى الرسول صلى الله عليه وسلم يقول في حديث الشفاعة: {إنه ينطلق فيخر ساجداً تحت العرش، فيحمد الله تعالى بمحامد يعلمه إياها لا يعلمها الآن} فيفتح الله جل وعلا عليه من العلم به آنذاك ما لم يكن لديه من قبل.
إذاً "الله" هو الذي تَحِنُّ إليه القلوب، "والله" هو الذي تحار فيه العقول! فهذه هي بعض معاني الألوهية، وعلى كل حال فإن من المعنى أنه: "الإله المعبود المتفرد" ولهذا جاء هذا الاسم وهو "الله" في الشهادة، فإن المؤمن يقول: (أشهد أن لا إله إلا الله) ولم يقل مثلاً: (أشهد أن لا إله إلا الرحمن) أو (إلا الرحيم) مع أن الرحمن والرحيم من أسمائه جل وعلا، لكن أطلق هذا الاسم العلم الذي هو أصل لكل الأسماء الأخرى، فقال: "أشهد أن لا إله إلا الله" اعترافاً بأنه لا معبود بحق في الكون إلا الله عز وجل، وأما المعبودات بالباطل فهي كثيرة: {ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ هُوَ الْبَاطِلُ} [الحج:62] .
ب/ الرحمن الرحيم: الاسم الثاني: المذكور هو "الرحمن" والاسم الثالث هو "الرحيم"، والرحمن الرحيم: مأخوذ من الرحمة، وقيل: الرحمن رحمة عامة بجميع الخلق، والرحيم رحمة خاصة بالمؤمنين، كما قال عز وجل: {وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيماً} [الأحزاب:43] وقيل إن الفرق بينهما أن اسم الرحمن بالنظر إلى وجود الصفة، وأما الرحيم فبالنظر إلى متعلقها في الخلق، أي: حصول أثرها في الخلق برحمته تعالى لهم، وقد أشار إلى هذا المعنى الإمام ابن القيم رحمه الله تعالى، فهو رحمان الدنيا والآخرة ورحيمهما.
وهاهنا ينبغي أن نتأمل سراً من أسرار تكرار هذا الاسم -الرحمن الرحيم- فإن الإنسان إذا أراد أن يقرأ قال: بسم الله الرحمن الرحيم، وإذا أراد أن يدخل قال: بسم الله الرحمن الرحيم، وإذا أراد أن يخرج قال: بسم الله، وإذا أراد أن يأكل قال: بسم الله، وإذا أراد أن يخطب أو يتكلم قال: بسم الله، حتى جاء في الحديث عند النسائي وغيره أن: {كل أمر ذي بال لا يبدأ ببسم الله -وفي رواية- "بالحمد لله" فهو أبتر أو أقطع أو أجذم} والمعنى ناقص البركة، وفي الحديث مقال على كل حال، لكن من المعلوم أن الاسم يقال هكذا: "بسم الله الرحمن الرحيم" فلم يقل أحد من الناس قط بسم الله المنتقم الجبار، أو بسم الله العزيز الحكيم، مع أن هذا حق، وإنما قيل "بسم الله الرحمن الرحيم".
وفي هذا إشارة إلى قوله عز وجل في الحديث القدسي عند البخاري وغيره: {إن رحمتي سبقت غضبي} وفي الحديث الآخر أيضاً في الصحيح: {إن الله تعالى جعل مائة رحمة، فأنزل منها رحمة واحدة في الدنيا، وبها يتراحم الناس، وبها ترفع الدابة حافرها عن ولدها خشية أن تصيبه، وادخر تسعة وتسعين رحمة إلى يوم الحساب} ففي ذلك إشارة إلى عظيم رحمته جل وعلا وأنها تسبق غضبه، ولذلك ينبغي ألا يقنط الإنسان من رحمة الله مهما أسرف على نفسه من الذنوب والمعاصي: {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ} [الزمر:53] {قَالَ وَمَنْ يَقْنَطُ مِنْ رَحْمَةِ رَبِّهِ إِلَّا الضَّالُّونَ} [الحجر:56] {إِنَّهُ لا يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ} [يوسف:87] ولهذا كان اليأس من رحمة الله والأمن من مكر الله من صفات الكافرين، وهكذا ينبغي للإنسان أن يتشبث أبداً بطلب رحمته جل وعلا، وأن يُعَلِّم الناس الثقة برحمته سبحانه.
وكثيراً ما كان النبي صلى الله عليه وسلم يعلم أصحابه الرجاء فيما عند الله عز وجل، وأن تكونَ ثقةُ الإنسان بالله وبرحمته أعظمَ من ثقته بعمله؛ فإن عمله قد لا يقبل؛ فقد يداخله الرياء والعجب أو عدم الإخلاص، أو لا يكون على وفق ما شرع رسول الله صلى الله عليه وسلم، فَيَردُّ على صاحبه، لكن يكون اعتماد العبد على رحمة الله جل وعلا، وهكذا ينبغي أن يدعو الناس والعصاة إلى الله عز وجل لتذكيرهم برحمته، مع أنه ينبغي أن يقرن هذا بتذكيرهم بعقوبته: {نَبِّئْ عِبَادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ * وَأَنَّ عَذَابِي هُوَ الْعَذَابُ الْأَلِيمُ} [الحجر:49-50] لكن الناس دائماً وأبداً محتاجون إلى تذكيرهم برحمة الله جل وعلا.
ونحن الآن نجد أن كثيراً من الناس -ربما من طلبة العلم أو من الدعاة- من يفيضون كثيراً في الحديث عن الوعيد والتشديد والتخويف والترهيب، وهذا أحد أوجه التربية التي جاء بهما القرآن والسنة، ولكن ينبغي العدل، وربنا جل وعلا يقول: {رحمتي سبقت غضبي} وعلّمنا أن نستفتح ونبدأ باسمه "الرحمن الرحيم" حتى إن الإنسان الذي يريد أن يتكلم مثلاً عن النار بماذا سيبدأ؟ سيقول في أول حديثه: "بسم الله الرحمن الرحيم"، والذي يريد أن يتكلم مثلاً عن نواقض الإسلام سيبدأ "ببسم الله الرحمن الرحيم"، والذي يريد أن يتكلم عن الحدود الشرعية سيبدأ "ببسم الله الرحمن الرحيم"، فينبغي أن يعطى هذا الحديث قدره عند الناس، ويذكروا دائماً بأن يتعلقوا بالله جل وعلا الرحمن الرحيم.
ج/ الله والرحمن من أسماء الله الخاصة: فهذه هي الأسماء الثلاثة المذكورة في هذه السورة، لكن هنا فائدة وهي: أن اسم "الرحمن" كاسم "الله" لا يسمى به غير الله، ولم يتسَمَّ به أحدٌ؛ فالله والرحمن من الأسماء الخاصة به جل وعلا، لا يشاركه فيها غيره، ولهذا قال سبحانه: {قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمَنَ} [الإسراء:110] أما الأسماء الأخرى فقد يسمى أو يوصَفُ بها غير الله، كالرحيم والسميع والبصير كما قال سبحانه: {بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ} [التوبة:128] يعني رسوله صلى الله عليه وسلم، وكما قال {إِنَّا خَلَقْنَا الْأِنْسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَبْتَلِيهِ فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعاً بَصِيراً} [الإنسان:2] أما اسم " الله " "والرحمن" فلا يسمى بهما غيره سبحانه.