الوقفة الثالثة: مع الهداية

عند قوله: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ} [الفاتحة:6] .

أولاً: الإنسان الآن واقف يصلي أو يقرأ القرآن، ومعنى ذلك أنه مسلم، ومع ذلك يقول: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ} [الفاتحة:6] والمعنى ثبتنا على الصراط المستقيم حتى لا ننحرف عنه أو نزيغ؛ لأن من الممكن أن يكون الإنسان اليوم مهتدياً وغداً من الضالين؛ ولهذا قال: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ * صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّينَ} [الفاتحة:6-7] أي ثبتنا عليه، وهذا معنى، وأيضاً من معانيها: قوِّ هدايتنا؛ فالهداية درجات، والمهتدون طبقات: منهم من يبلغ إلى درجة الصديقية، ومنهم من يكون دون ذلك وبحسب هدايتهم نكون منازلهم في الجنة، وبحسبها تكون سيرهم على الصراط، فإن لله تعالى صراطين: صراط في الدنيا، وصراط في الآخرة، وسيرك على الصراط الأخروي هو بقدر سيرك على الصراط الدنيوي، فالصراط الدنيوي هو طريق الله: {وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ * صِرَاطِ اللَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ} [الشورى:53] {وَيَهْدِيَكَ صِرَاطاً مُسْتَقِيماً} [الفتح:2] {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ} [الفاتحة:6] فهذا صراط الدنيا بطاعة الله فيما أمر واجتناب ما نهى عنه، وبقدر استقامة العبد عليه يكون سيره على الصراط الأخروي الذي هو الجسر المنصوب على متن جهنم وهو دحض مزلة، يمشي الناس فيه بقدر أعمالهم، فمنهم من يمر كالبرق، ومنهم من يمر كالريح، ومنهم من يمر كأجاويد الخيل، ومنهم من يمر كالركاب، ومنهم من يمشي، ومنهم من يمشي تارة ويهوي أخرى.

فهو يقول: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ} [الفاتحة:6] أي: قوِّ هدايتنا، وزَوِّدْ إيماننا، وعَلِّمْنا، ولهذا قال سبحانه: {وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْماً} [طه:114] فالعلم من الإيمان، ومن التزام الصراط المستقيم أن يزداد علماً، قال سبحانه: {فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزَادَتْهُمْ إِيمَاناً} [التوبة:124] فزيادة الإيمان هي زيادةُ ثباتٍ على الصراط المستقيم: {وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدىً} [محمد:17] وهذا نص في الموضوع، وأيضاً: {إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَزِدْنَاهُمْ هُدىً} [الكهف:13] فإنه من الممكن أن يكون الإنسان مهتدياً ثم يزداد من الهداية ويزداد بصيرة وعلماً ومعرفةً وتمسكاً ويزداد دعوةً وصبراً، إلى غير ذلك، فهذا من معاني قوله: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ} [الفاتحة:6] .

ومن معانيها أيضاً -وهو معنى لطيف- أن العبد إذا قال هذا، فهو يعلم بذلك أن لله تعالى ولرسوله صلى الله عليه وسلم في كل أمر أو مسألة يلم به من أمور الدنيا حكماً، إما إيجاب أو استحباب أو إباحة أو كراهة أو تحريم، والعبد قد يجهل هذه الأحكام أولاً فلا يعلمها، وقد يعلمها ولكنه لا يعمل بها، لغلبة النفس والهوى والشيطان، وهذا المعنى من أعظم المعاني الذي أريدُ أن تنتبهوا لها.

ومن معاني طلب الهداية أيضاً في قوله: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ} [الفاتحة:6] أن فيها إشارة إلى أن العبد محتاج إلى الهداية في كل موقف، وكل حال تمر به، وفي كل مسألة تواجهه؛ لأن هذه المسألة التي واجهته، فيها هداية وفيها ضلال، فيها خطأ وصواب، فيها حق وباطل، ولله ورسوله صلى الله عليه وسلم فيها حكم؛ فأنت محتاج إلى أمرين: أولاً: معرفة الحكم، أي ماذا يريد الله ورسوله منك في هذه المسألة.

ثانياً: العمل بهذا الحكم.

فمن الهداية حين تقول: (اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ) أي: يا رب، عرفنا ما تحب وترضى في كل ما يواجهنا من أمور الحياة، وقَوِّنا على العمل بهذا الذي عرفناه.

وسر الضلال يرجع إلى أحد أمرين: إما الجهل فمثلاً: إنسان وُلِدَ له ولدٌ فهذه حادثةٌ نزلت به، فيحتاج فيها إلى أنه أول ما يولد الولد -مثلاً- إلى اسم، والاسم من الأشياء العادية، فإذا أراد أن يسمي ولده، فقد يكون الأب جاهلاً، فيسمي ولده باسم غير شرعي، مثل التعبيد لغير الله، فيسميه مثلاً: عبد المطلب، فهذا من الأسماء الموجودة عند المسلمين الآن، أو يسميه بأسماء الشياطين أو بأسماء الفراعنة! فرعون: وهذا اسم موجود حتى عند المسلمين أيضاً! وهذه مسألة قد يراها الإنسان عادية أو بسيطة لكنها مثال يدل على الجهل.

إذاً سبب الخطأ هنا: الجهل، فمن الهداية أن يكون الإنسان عالماً لئلا يقع في الخطأ وهو جاهل، فأنت حين تقول: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ} [الفاتحة:6] أي: تقول أولاً: (يا رب علمنا الحق الذي تريده في كل مسألة تنزل بنا) حتى لو كانت مسألة يراها العبد صغيرة، مثل: مسألة تسمية المولود، فمن الهداية -هداية الصراط المستقيم- هداية العبد فيما يتعلق بتسمية الولد، لأن سبب الضلال -أولاً- الجهل.

وقد يرتفع الجهل بالعلم فيكون الإنسان عالماً، ولكن ليس لديه الهمة والقوة القلبية التي تجعله يعمل بهذا العلم، فيرتكب الخطأ عمداً، مثال: أكل الربا، فالمال بطبيعة الحال محبوب: {وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ} [العاديات:8] ولذلك لا يكفي أن يعرف الإنسان أن ذلك حرام ليجتنبه، بل تجد أن الإنسان قد يعرف أنه حرام، ومع ذلك يقول: عسى الله أن يغفر لنا، وأنا معترف بأن هذا المال من طريق غير مشروع، بل قد يسرق المال، فالسارق لا يجهل أن السرقة حرام حتى لو لم يكن لديه علم؛ لأنه يعرف أن هذا أخذ مال الغير، فالفطرة تقول له: إن هذا لا يسوغ ولا يعقل أن تعتدي على الآخرين وتأخذ أشياءهم، ولكنه يفعل السرقة مع علمه بمنعها وبتحريمها، فيفعلها لضعف الإيمان في قلبه وضعف الوازع والرادع الديني.

فيحتاج العبد من أجل الهداية إذاً لأمرين: الأول: العلم لئلا يقع في الضلال عن جهل.

والثاني: العمل بالعلم عن طريق وجود إيمان قوي في قلبه يحدوه للعمل.

فإذا قال: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ} [الفاتحة:6] كأن المعنى: عرِّفنا الحق، أي: نعرف الحق أولاً ثم نعمل به ثانياً.

فطرق الضلال إذاً: إما الجهل فيرتكب الخطأ جهلاً، وإما الهوى فيترك الحق ويفعل الخطأ مع علمه بذلك الخطأ.

إذاً كوني أقول في كل ركعة: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ} [الفاتحة:6] إشارة إلى أنني أحتاج الهداية على الدوام، فإذا ولد لي ولد احتجت الهداية في تسميته، ثم احتجت الهداية في كل العادات المتعلقة بولادته، وإذا أراد الإنسان مثلاً أن يصلي احتاج إلى الهداية ليعرف كيف يصلي، وإذا أراد أن يتاجر احتاج إلى الهداية ليعرف كيف يتاجر، وإذا أراد أن يبني احتاج إلى الهداية ليعرف كيف يبني، وإذا أراد أن يزرع، أو يأكل، أو يشرب، أو ينام وهكذا كل لحظة يحتاج إلى هداية.

طور بواسطة نورين ميديا © 2015