أولاً: توجيه خصائصهم الفطرية الموجودة لديهم لخدمة الإسلام، بمعنى أن الإسلام لا يهدف إلى إلغاء الخصائص الفطرية الموجودة عند الناس، بل يعمل على توجيهها توجيهاً صحيحاً والاستفادة منها، فهذا مثلاً عمر بن الخطاب رضي الله عنه وأرضاه كان قوياً شديداً في الجاهلية كما تعلمون، وكان كثيرٌ من القرشيين يهابه ويخشاه، فمن يوم أن أسلم رضي الله عنه وأرضاه تحولت هذه القوة والشدة الموجودة فيه إلى شجاعة في سبيل الله عز وجل وإلى جراءة في مواجهة الكفار والمشركين، وهذا ما يذكره لنا المصنفون في سيرته رضي الله عنه وأرضاه.
يذكر الإمام محمد بن إسحاق صاحب المغازي والحاكم في المستدرك وابن حبان وغيرهم أن عمر رضي الله عنه وأرضاه لما أسلم ذهب إلى رجل يقال له جميل بن معمر الجمحي، وكان هذا الرجل مشهوراً بإفشاء السر ونشر الكلام، فاختاره عمر وقال له هل علمت أني قد أسلمت؟ فقام جميل بن معمر في نوادي قريش وهو يصرخ بأعلى صوته، يقول: يا معشر قريش إن عمر قد صبأ، وعمر يركض خلفه؛ ويقول: كذبت كذبت، ولكنني أسلمت وشهدت أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، ثم يتجمع القرشيون حول هذا الرجل الشديد عمر رضي الله عنه، وهو ما زال حديث عهدٍ بالإسلام، فيظل يقاتلهم -كما تقول الرواية- منذ غدوه حتى صارت الشمس حيال رأسه، يقاتل هذا الجمع الغفير من القرشيين في مسجد مكة بيده بطبيعة الحال، لأن القتال بالسيف لم يكن مشروعاً حينذاك، فلما صارت الشمس حيال رأسه كأنه تعب وأعيا فقعد، وهم يعرشون حوله -ملتفون حوله- وهو يقول: [[يا أعداء الله: اصنعوا ما بدا لكم، فوالله لو قد بلغنا ثلاثمائة رجل لأخرجناكم منها أو أخرجتمونا منها]] يعني: مكة.
إنها صورة من صور القوة في الحق، وهذه القوة كانت موجودة في عمر كصفة مجردة قبل الإسلام، لكن لما أسلم توظفت وتوجهت هذه القوة في سبيل الخير، واستغلت أو استثمرت لصالح الإسلام فلم يأتِ الإسلام ليحطم شخصيات الرجال ويقضي عليها؛ ويجعل الناس كلهم عبارة عن نسخة واحدة أو قالب مصبوب، لا بد أن يكون الناس كلهم على هذه النسخة أو على هذا القالب، لا، بل جاء الإسلام لينقل كل فرد من وضعه الذي يعيش فيه، وخصائصه الذي يتميز بها ليكون مسلماً متسماً بخصائص معينة؛ يوجه هذه الخصائص لخدمة الإسلام، لم يأت الإسلام ليجعل الناس كلهم علماء مثلاً، ولا ليجعل الناس كلهم مجاهدين يحملون السيف في سبيل الله، ولا ليجعل الناس كلهم متعبدين يحيون ليلهم ويصومون نهارهم، لا، بل جاء الإسلام يخاطب كل فرد بما يناسبه، فالقوي في الجاهلية يبقى قوياً في الإسلام، والإنسان الذي يتمتع بفطرته بخصائص عاطفية تجده يجد في الإسلام ما يشبع هذه العواطف فيتحول إلى متعبد لله عز وجل غير خارجٍ عن التعبد إلى الصوفية، والإنسان الذي يحب القوة يجد في الإسلام وفي ميدان الجهاد ما يستغل هذه الطاقة، والإنسان الذي يملك ذهناً متطلعاً إلى تحصيل المعلومات يجد في الإسلام الحث على التعلم وطلب العلم.
ومع هذه الشدة التي كان عمر رضي الله عنه يتحلى بها فإننا نجد أن الإسلام قد هذب هذه الصفة فيه رضي الله عنه، وإيمانه بالله واليوم الآخر والجنة والنار جعله يكثر من لوم نفسه وتقريعها، ولذلك روى الإمام مالك في الموطأ وعبد الله بن أحمد بن حنبل في زوائده على كتاب الزهد لأبيه عن أنس بن مالك رضي الله عنه [[أنه خرج مع عمر رضي الله عنه وأرضاه إلى أحد الحيطان -يعني البساتين- فدخل عمر رضي الله عنه في هذا الحائط، قال: أنس سمعته يقول -وبيني وبينه الحائط- وهو يخاطب نفسه يقول: عمر بن الخطاب أمير المؤمنين، بخٍ بخٍ والله لتتقين الله أو ليعذبنك]] فهو يخاطب نفسه الآن، وكأنه يقول لنفسه: كيف وصلت يا ابن الخطاب الذي كنت ترعى غنم أبيك في الجاهلية ولا هم لك في الحياة؛ كيف وصلت الآن إلى أن تكون أميراً للمؤمنين ويشار إليك بالبنان، ثم يتعجب من هذا الأمر فيقول: بخٍ بخٍ وهي كلمة تقال للتعجب، ثم يثني على نفسه باللوم فيقول: والله لتتقين الله أو ليعذبنك، فلا ينفعك بين يدي الله أن تكون أميراً أو ذا منصبٍ بين المسلمين ما لم تقدم بينك وبينه العمل الصالح.
وهكذا استفاد الإسلام من هذه الخصيصة الموجودة عند عمر وهي القوة في الحق مع تهذيبها وتوجيهها توجيهاً صحيحاً بحيث لا تتعدى حدها.
هذا أنموذج لرجل يتميز بالقوة.
وهناك أنموذج ثانٍ لرجلٍ يتميز بالشجاعة وهو خالد بن الوليد رضي الله عنه وأرضاه حيث تتحول شجاعته بل يتحول تهوره في الجاهلية؛ إلى شجاعةٍ وإقدامٍ في سبيل الله ونصر للإسلام وخذلانٍ لأعداء الدين، ولذلك يروي الإمام أحمد في فضائل الصحابة وأبو يعلى في مسنده وابن حبان وغيرهم بسندٍ صحيح أن خالد بن الوليد رضي الله عنه وأرضاه كان يقول: " والله ما ليلة تهدى إليّ عروس أنا لها محب أبشر فيها بغلام، بأحب إليّ من ليلةٍ شديدة الجليد قضيتها مع نفرٍ من المهاجرين -يعني مجاهدين في سبيل الله عز وجل- " فيتحول إقدام خالد وشجاعته إلى رغبة حقيقية ملحة في الجهاد في سبيل الله، ويجد هذا الرجل الباسل المجاهد لذته وطمأنينة نفسه في الخروج إلى سبيل الله لقتال أعداء الله، حتى وهو يجد ألم البرد، حتى وهو يجد الخوف كما يخاف غيره من الناس، ومع ذلك يحس بأن هذه ألذ ليلة يقضيها في عمره، إنه أنموذج لقدرة التربية الإسلامية الصحيحة على الاستفادة من خصائص الناس وتوجيهها توجيهاً صحيحاً.
هذه هي النقطة الأولى التي تفعلها التربية الإسلامية في نفوس الناس وهي الاستفادة من الخصائص الفطرية الموجودة فيهم استفادة صحيحة وليس إلغاء هذه الخصائص أو القضاء عليها.