أما القضية الثانية: فهي التركيز على الجوانب الإيجابية في النفس البشرية، فإننا نعلم -جميعاً- أنه لا يكاد يوجد إنسان مهما يكن شريراً إلا ويوجد فيه قدر من الخير ولو يسير، وقد يكون هذا القدر أحياناً مغطى بطبقة من الانحراف أو الفساد؛ بحيث أن الإنسان -الذي يقابله أول وهلة- يتصور أن هذا الإنسان مجموعة من الرذائل وأنه ليس فيه خير أبداً، لكن لو وفق هذا الإنسان ليد حانية تعمل على إزالة الغبار والانحراف الموجود على الفطرة لتكشفت الفطرة عن خصائص جيدة محمودة عند هذا الإنسان؛ وأقرب مثل لذلك هو ما ذكرته قبل قليل من قصة عمر رضي الله عنه، فإحدى المسلمات المهاجرات إلى الحبشة رآها عمر في الطريق فقال إلى أين تذهبون؟ وهم خارجون إلى الحبشة؟ قالت: نريد أن نخرج نسيح في أرض الله فقد آذيتمونا وعذبتمونا، فكأن عمر رق لها، فتعجبت من هذه الرقة الموجودة عند عمر، وأخبرت زوجها بذلك فقال: أتظنين أن يسلم عمر بن الخطاب؟ قالت: نعم، قال: لا والله لا يسلم عمر حتى يسلم حمار الخطاب! فالفطرة أحياناً تكون مدفونة بطبقة كثيفة من الانحراف يصور للإنسان أن هذا الشخص المنحرف الذي أمامه هو إنسان شرير من جميع جوانبه، لكن في الواقع أنه لا يخلو من جانب خير، فالتربية الإسلامية تهدف إلى مخاطبة هذا الجانب الخيِّر وتحريكه وإثارته حتى يكبر هذا الجانب ويصبح بارزاً، وبطبيعة الحال يضعف جانب الشر، وهكذا حتى يزول الشر أو يضعف ويكثر الخير ويصبح هو الغالب على نفس هذا الإنسان، ولو نظرنا في سيرة الرسول صلى الله عليه وسلم ومعاملته لأصحابه من الشباب وغيرهم لوجدنا ملمحاً قوياً في هذا الجانب.
فعلى سبيل المثال يروي لنا عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أنه خرج في سرية مع مجموعة من الصحابة فحاص الناس حيصةً -يعني: هزموا في المعركة وكأنهم فروا منها- فلما التقى بعضهم ببعض قالوا: ماذا صنعنا؟ فررنا من الزحف وبؤنا بالغضب لأن الله عز وجل توعد من فر من الزحف بالوعيد الشديد، كما قال تعالى: {وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلَّا مُتَحَرِّفاً لِقِتَالٍ أَوْ مُتَحَيِّزاً إِلَى فِئَةٍ فَقَدْ بَاءَ بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ} [الأنفال:16] ثم تشاوروا في ماذا يصنعون؟ فقالوا: لنذهب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فإن كان لنا توبة أقمنا وإن كان الأمر غير ذلك ذهبنا، فذهبوا إلى الرسول صلى الله عليه وسلم وابتدروه قبل أن يصلي الفجر، فجاءوا يسلمون أنفسهم؛ ويقولون: يا رسول الله نحن الفرارون، نحن الفرارون -وقد شعروا بأن القضية خطيرة فيمكن ألا تقبل توبتهم، ويمكن أن يكونوا قد باءوا بغضب من الله، ويمكن أن يكون مأواهم جهنم كما يفهم من ظاهر الآية، فشعروا بالخطر، ولذلك تجد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمسك الجانب الآخر وبعث الخير في نفوسهم فلم يوافقهم على ما قالوا، ولم يقل: نعم أنتم فررتم وفعلتم وفعلتم، ويوبخهم على ما فعلوا، كلا، بل قال لهم صلى الله عليه وسلم- بل أنتم الكرارون، يعني: أنتم الكرارون الذين تغادرون العدو ثم تكرون عليهم مرة أخرى، فأثار في نفوسهم الخير لأنهم مستعدون والحالة هذه أن يخوضوا معركة ولا يغادروها حتى ولو قتلوا عن بكرة أبيهم، فأثار النبي صلى الله عليه وسلم، هذا الجانب الخير في نفوسهم واستفاد من شعورهم بالخطأ أو بالمعصية استفادة صحيحة يحتاج إليها الدعاة إلى الله عز وجل ويحتاج إليها المربون في كل مكان، قال فجئنا وقبلنا يده صلى الله عليه وسلم فقال لنا: {أنا فئة المسلمين} وهذا الحديث رواه أبو داود والترمذي وحسنه ورواه الإمام أحمد أيضاً، فهو أنموذج لتحريك الخير الكامن في النفوس.
وثمة أنموذج آخر يحكيه لنا أنس بن مالك رضي الله عنه وأرضاه يقول أنس: إن صفية بنت حيي بن أخطب زوج النبي صلى الله عليه وسلم سمعت أن حفصة بنت عمر بن الخطاب رضي الله عنهما تقول لـ صفية: إنها ابنة يهودي، وهذا الكلام صحيح فـ صفية أبوها يهودي وهو حيي بن أخطب ومات ولم يسلم، فهذا جانب قد يفسر بأنه جانب ضعف قد تحس به صفية خاصةً حين تعيرها به إحدى ضراتها، فيدخل عليها النبي صلى الله عليه وسلم وهي تبكي، فيقول لها ما يبكيكِ؟ فتقول له: يا رسول الله حفصة تعيرني بأنني بنت يهودي، فقال عليه الصلاة والسلام: {أفلا قلتِ لها بأنني بنت نبي، وعمي نبي، وتحت نبي} وهذه الرواية عند الترمذي وقد صححها، وفي رواية أخرى عنده أيضاً أنه صلى الله عليه وسلم قال لها: {أفلا قلتِ لها: إن أبي هارون وعمي موسى وزوجي محمد صلى الله عليه وسلم} وقد كانت صفية من نسل هارون عليه السلام، فالرسول صلى الله عليه وسلم حين لمحت حفصة الجانب الذي قد يفسر عند البعض بأنه جانب سلبي وهو أن صفية بنت يهودي لمح صلى الله عليه وسلم الجانب الآخر وهو أن صفية من نسل النبي هارون، وعمها موسى عليهما السلام، وزوجها محمد صلى الله عليه وسلم، فلا يضيرها أن يكون أبوها يهودياً.
هذا هو الجانب الثاني من الجوانب التي تعني التربية الإسلامية، وهو استخراج الخير الكامن في النفوس أو التركيز على الجوانب الإيجابية عند الإنسان.