أيها الإخوة! ليس هذا الأمر مقصوراً على العبادات فقط، بل حتى أعمال الدنيا، فالعبادات أمرها معروف، لكن حتى أعمال الدنيا، إذا اقترن بها الاحتساب واقترنت بها النية تحولت إلى قُرُبات يُثاب عليها العبد، فأما موضوع الأعمال الصالحة فحدِّث ولا حرج، خذ -على سبيل المثال- القتل، هل هناك أعظم من أن يقدم الإنسان رقبته لتقطع في معركة من المعارك أو في موقف من المواقف؟ هذا أعظم الجود.
يجود بالنفس إن ضن البخيل به والجودُ بالنفس أقصى غاية الجودِ لكن فرق بين مَن يُقتل في سبيل الدنيا، أو يُقتل من أجل المغنم، أو يُقتل من أجل الزعيم والرئيس، أو يُقتل من أجل الوطن والتراب والطين، فرق بين مَن يُقتلون في سبيل الطاغوت وبين مَن يقتل في سبيل الله تعالى صابراً محتسباً مقبلاً غير مدبر، ولهذا في الصحيح: جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: {يا رسول الله! أرأيتَ إن قُتِلْتُ صابراً محتسباً مقبلاً غير مدبر، يُغفَر لي؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: نعم، ثم نزل جبريل على النبي صلى الله عليه وسلم فتغشاه من الوحي ما كان يتغشاه، فلما سُرِّي عنه قال: أين السائل؟ قال: ها أنا يا رسول الله! قال: كيف قلتَ؟ قال: أرأيت -يا رسول الله- إن قُتِلْتُ صابراً محتسباً، مقبلاً غير مدبر، يُغفر لي؟ قال: يغفر لك كل شيء إلا الدَّين، أخبرني بذلك جبريل آنفاً} .
إذاً: الاحتساب لا بد منه في كل عمل عظيم، كالقتل، أو عمل يسير كالخطوة التي تمشيها إلى المسجد، أو الغصن الذي تعزله عن الطريق، أو الكلمة الطيبة التي تقولها لفلان أو فلان، ولهذا جاء في صحيح مسلم عن أبي بن كعب رضي الله عنه قال: {كان رجل من الأنصار ليس بالمدينة رجل أبعد من المسجد منه، وكانت لا تخطئه صلاة مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: فقيل له: يا فلان! لو اشتريت حماراً تركبه في الرمضاء وفي الظلماء -كان يأتي على قدميه إلى المسجد- قال الرجل: ما أحب أنَّ بيتي إلى جنب المسجد، إني أريد أن يُكتَب لي ممشاي إلى المسجد، ورجوعي إذا رجعت إلى أهلي} .
إذاً، الاحتساب وارد في هذه الحالة فأنا أمشي أريد أن يُكتب لي كل خطوة أمشيها إلى الصلاة، وكل خطوة أعود بها من المسجد إلى بيتي، فلما قيل لرسول الله صلى الله عليه وسلم ذلك، قال: {قد جمع الله لك ذلك كله} وفي رواية لـ مسلم -أيضاً-: {فإن لك ما احتسبت} فما دام المسألة مسألة احتساب فكل خطوة تمشيها إلى المسجد مكتوب لك أجرها وبرها وذخرها عند الله تعالى، وكل خطوة تمشيها من المسجد إلى بيتك راجعاً فهي مكتوبة لك أيضاً.