وقل مثل هذا وذاك في موضوع الصبر على أقدار الله -عزَّ وجلَّ- فإن العبد قد يبتلى في نفسه، أو ماله، أو أهله، أو ولده، فهنا يصبر العبد المؤمن صبر المحتسب الراجي ثواب الله -عزَّ وجلَّ- وأجره وموعوده، لا صبر الإنسان الذي لا حيلة له، صبر المضطر الذي ليس بإمكانه الدفع والمنع، ولهذا قرن الرسول صلى الله عليه وسلم الأجر بالصبر، ففي حديث عمرو بن شعيب، -رحمه الله- أن رجلاً مات ابن له، فكتب إليه عمرو بن شعيب -كما في سنن النسائي- كتب إليه كتاباً، يعزيه في ولده الذي هلك، ويقول له: إنه حدَّثه أبوه عن جده عبد الله بن عمرو بن العاص، عن رسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم- أنه قال: {إن الله تعالى لا يرضى لعبده المؤمن إذا قَبَضَ صفيَّه من أهل الدنيا -يعني: حبيبه-، فصبر واحتسب، وقال ما أُمر به بثواب دون الجنة} .
فإذا مات قريب، أو حبيب، أو ولد، أو صاحب، فصبر واحتسب، وقام بما أُمر به لم يرضَ الله تعالى له بثواب دون الجنة فيصبر صبر المحتسب، لا صبر المضطر، ومثله حديث أسامة بن زيد، وهو في الصحيحين: {أن ابناً لبنت رسول الله صلى الله عليه وسلم حضره الموت، فبعثت إلى أبيها رسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم- تقول: إن ابني قد حُضِر، جاءه الموت فأتنا، فبعثَ إليها رسولُ الله -صلى الله عليه وآله وسلم- يقول لها: إن لله ما أخذ، وله ما أعطى، وكل شيء عنده بأجل مسمى؛ فلتصبر ولتحتسب.
فأرسلَتْ إليه، تُقْسِمُ عليه لَيَأتِي -حَلَفَتْ: لَتَأْتِي يا رسول الله - فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم ومعه جماعة من أصحابه، فيهم: سعد بن معاذ، وأبي بن كعب، وغيرهم، فلما رُفع الصبيُّ إلى رسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم- إذا نفسُه تَقَعْقَع، كأنها شَن أي: أصابه الموت، وروحه تخرج، وهو يعاني سكرات الموت، فبكى رسول الله صلى الله عليه وسلم، ودمعت عيناه، فقال له سعد: يا رسول الله! ما هذا؟ تَعَجَّبَ! قال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: هذه رحمة، وضعها الله تعالى في قلوب عباده، وإنما يرحم الله من عباده الرحماء} المهم قوله صلى الله عليه وسلم: {إن لله ما أخذ، وله ما أعطى، وكل شيء عنده بأجل مسمى، فلتصبر ولتحتسب} .
فأمرها بالصبر والاحتساب على ما يفوتها من عاجل الدنيا، وكذلك لو فات الإنسان شيءٌ من ماله، بسرقة، أو خسارة مادية، أو ضياع، أو تلف، أو اصطدام سيارة، أو انقلاب سيارة، أو غير ذلك من الأسباب، فإن العبد يتذكر أنه بالصبر يكتب له ذلك صدقة في حسناته، ولهذا روى الإمام أحمد في مسنده، عن أسماء رضي الله عنها قالت: {لَمَّا نزل رسول الله صلى الله عليه وسلم بذي طوى، وهو: مكان قرب مكة وكأن هذا كان يوم فتح مكة- قال أبو قحافة -وهو والد أبي بكر رضي الله عنه، وكان مشركاً يومئذٍ، قال لبُنَيَّة عنده، وهي أصغر أولاده، قال لها: يا بُنَيَّة، اذهبي بي إلى جبل أبي قبيس، فَرَقَتْ به إلى هذا الجبل -وهو جبل مُطِلٌّ على الكعبة- فصعدت به إلى الجبل، فقال لها: يا بُنَيَّة -وكان أعمى- ماذا ترين؟ قالت: أرى سواداً عظيماً قال: تلك الخيل -هذه جيوش المسلمين قد أحاطت بمكة- قالت: وأرى رجلاً في وسط الخيول يذهب ويجيء، ويقبل ويدبر قال: هذا وازع الخيل -أي: الآمر، الذي يأمر ويقدم ويؤخر، وينظم الجيش- قالت: يا أبتاه، قد انتشر السواد وعَمَّ فقال: معنى ذلك: أن الجيش قد دخل إلى مكة، فهَلُمِّي بي إلى بيتي بسرعة، لا يدركنا الجيش فذهبت به، وأسرعت، فأدركهم الجيش قبل أن يصلوا إلى البيت، فأمسك رجل بهذه البُنَيَّة، وكان في عنقها قلادة من وَرِق -من فضة، قلادة نفيسة ثمينة- فقطعها منها وأخذها، ففتح المسلمون مكة، وجاء أبو بكر رضي الله عنه إلى والده، فأخذ بيده وقال: هَلُمَّ إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فدخل به على رسول الله -صلى الله عليه وآله سلم- وقال: يا رسول الله! هذا أبو قحافة قال -عليه الصلاة والسلام- لـ أبي بكر: لو أمرتني، فأذهب إليه.
قال: يا رسول الله! هو أحق أن يأتي إليك، فوضع النبي صلى الله عليه وسلم يده على صدره، وقال له: أسلِم.
فقال: أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أنك رسول الله، وكان شعره أبيض، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: هلا غيَّرتم هذا الشيب.
وفي رواية: غيروا هذا الشيب، وجنبوه السواد.
فجاءت البُنَيَّة إلى أبي بكر رضي الله عنه فقالت له: يا أبا بكر -وهو أخوها، زعيم من زعماء المسلمين الذين دخلوا مكة فاتحين- قلادتي سُرقت، أخذها رجل.
قال: مَن الرجل؟ قالت: لا أدري مَن هو.
فقام أبو بكر يصيح بأعلى صوته، يقول: ناشدتُ اللهَ والإسلامَ رجلاً أخذ قلادة أختي إلا ردها.
فانتظروا، وما جاءه أحد، فقال أبو بكر لأخته: -وهي بُنَيَّة صغيرة، لكن يؤدبها ويعلمها- يا بُنَيَّة، احتسبي عند الله تعالى قلادتكِ} .
إذاً: كل قليل كل يسير، ولو كان شيئاً يسيراً لا يؤبه له، تحتسبه عند الله تعالى، فإن الله تعالى يكتب لك أجر ما احتسبت.
وهكذا كل عمل، حتى أعمال الدنيا، من بيع، أو شراء، أو زراعة، أو تجارة، أو صناعة، أو دراسة، أو إدارة، كل هذه الأعمال بالاحتساب تتحول إلى قربات وطاعات تؤجر عليها، ولهذا جاء في: سنن أبي داود وسنن الترمذي، عن عقبة بن عامر رضي الله عنه، أن النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- قال: {إن الله تعالى يُدْخل بالسهم الواحد ثلاثة نفر الجنة، صانعه يحتسب بصنعته الخير} هذا الصانع هو أول من سماه رسول الله صلى الله عليه وسلم {ومُنْبِلُه، والرامي به} .
إذاً: كل عمل تعمله فإنه يُكتب لك بالنية والاحتساب قربةً وطاعةً إلى الله تعالى، فكيف إذا كان العمل في أصله عبادة.
فالله الله! أيها الأحبة المؤمنون، وأيتها الأخوات المؤمنات، أن يستذكر الإنسان ويستحضر في كل شيء يفعله، وفي كل شيء يتركه، وفي كل شيء يفوت عليه، أن يحتسب النية عند الله تعالى.