الاحتساب يدخل في ترك المعاصي

أيها الإخوة! هذا في الطاعات، أما في الكف عن المعاصي فالأمر كذلك؛ فرق بين من تجنب الخمر -مثلاً- لأنه يخشى أن تضر بصحته، أو يخشى أن تكون فضيحة له، أو يخشى أن تذهب بعقله فحسب، فهذا عمله حسن، وهو من خصال المروءة، وقد كان بعض أهل الجاهلية يتركونها، ويقول أحدهم: فلا والله أشربها صحيحاً ولا أشفى بها أبداً سقيماً ولكن ليس له الأجر الذي لذلك الذي ترك الخمر وهو يقرأ قول الله تعالى: {إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [المائدة:90] ويسمع حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم المتفق عليه أنه -عليه الصلاة والسلام- قال: {من شرب الخمر في الدنيا، ثم مات ولم يتب منها، لم يشربها في الآخرة} .

إذاً يترك الخمر في الدنيا، ولو كانت نفسه تميل إليها أو تشتهيها، ويتوب منها، ويقلع عنها؛ لأنه يَرِدُ في اعتباره وحسابه ادخار ذلك لخمر في الجنة لا تقاس بخمر الدنيا، قال الله تعالى: {مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ فِيهَا أَنْهَارٌ مِنْ مَاءٍ غَيْرِ آسِنٍ وَأَنْهَارٌ مِنْ لَبَنٍ لَمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ وَأَنْهَارٌ مِنْ خَمْرٍ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ وَأَنْهَارٌ مِنْ عَسَلٍ مُصَفّىً وَلَهُمْ فِيهَا مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ وَمَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ كَمَنْ هُوَ خَالِدٌ فِي النَّارِ وَسُقُوا مَاءً حَمِيماً فَقَطَّعَ أَمْعَاءَهُمْ} [محمد:15] إذاً: يحتسب بترك الخمر خمر الجنة {يَتَنَازَعُونَ فِيهَا كَأْساً لا لَغْوٌ فِيهَا وَلا تَأْثِيمٌ} [الطور:23] .

ومثله: لباس الحرير، الذي قال فيه النبي صلى الله عليه وسلم: {من لبس الحرير في الدنيا لم يلبسه في الآخرة} .

ومثله: ترك نساء الدنيا بالحرام؛ لأنه يريد عند الله تعالى حوراً حساناً أُعْدِدْن للرجال الصالحين المؤمنين الأتقياء الأعفاء، ولو تطلعت نفسه، وتاق ضميره، وتحركت شهوته، إلا أن اليقين الصادق بموعود الله تعالى في الجنة يجعله يدخر هذا الأمر، ويترك العاجل لموعد غيب لم يرَه، ولكنه آمن به، ولذلك كان أعظم ما مدح الله به الأنبياء أو الصالحين هو الإيمان بالدار الآخرة، والإعداد والاحتساب له، قال الله -عزَّ وجلَّ-: {إِنَّا أَخْلَصْنَاهُمْ بِخَالِصَةٍ} [ص:46] خصصناهم بخصيصة، ميزة، نعمة أكرمهم الله تعالى بها وفضَّلهم، {إِنَّا أَخْلَصْنَاهُمْ بِخَالِصَةٍ ذِكْرَى الدَّارِ} [ص:46] وارد في حسابه ذكر الدار الآخرة، وذكراها، والإعداد لها، والترك من أجلها، والفعل من أجلها: {وَإِنَّهُمْ عِنْدَنَا لَمِنَ الْمُصْطَفَيْنَ الْأَخْيَارِ} [ص:47] .

وأعظم ما ذم الله تعالى به الكفار والملحدين أنهم لا يؤمنون بالدار الآخرة، {وَإِنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ عَنِ الصِّرَاطِ لَنَاكِبُونَ} [المؤمنون:74] {وَقَالَ مُوسَى إِنِّي عُذْتُ بِرَبِّي وَرَبِّكُمْ مِنْ كُلِّ مُتَكَبِّرٍ لا يُؤْمِنُ بِيَوْمِ الْحِسَابِ} [غافر:27] .

فإذا نسي الإنسان الجنة والنار، ويوم الحساب، ونسي الميزان، ونسي الاحتساب، اختلت الحسابات عنده: لماذا يترك الربا وفيه أموال هائلة طائلة سوف تحصل له؟ لماذا يتركه، إذا لم يكن عنده مبدأ الاحتساب والنية؟ لماذا يترك الحرام وقد تيسر له؟ ما دام أنه ليس عنده نية واحتساب، ولم يَرِدْ في قلبه وضميره وعقله ووجدانه الخوف من الله، أو الرجاء في ثوابه، وهذا هو سبب انحراف المنحرفين، وهو أيضاً سبب طاعة الطائعين.

طور بواسطة نورين ميديا © 2015