تغيير المسار ومحاولة مسخ الأمة

وهكذا حصلت القضية الرابعة من أنواع العقاب، وهي أخطر ما يكون: وهي أن الأمة بدأ مسارها في عدد من البلاد يتغير، فالمنافقون لم يكتفوا فقط بإشاعة المنكرات، لا، بل هم يخططون إلى سلخ الأمة عن دينها بالكلية، بحيث تتحول إلى أمة أخرى غير الأمة الإسلامية، تتحول مثلاً إلى أمة علمانية لا دين لها، تقبل أن يعيش فيها المسلم واليهودي والنصراني وأن تحكم بأي شريعة، أو بأي نظام، وأن يشيع فيها أي فكر وأي مبدأ وأي منهج، ليس لها دين، وليس لها اعتقاد تلتزم به.

وهذا - في الحقيقة- أخطر من الحرب العسكرية، أرأيت الآن كم دولة إسلامية سلخت من المسلمين عن طريق الحرب العسكرية؟ قد تقول لي فلسطين، صحيح أخذها اليهود بالقوة، وأفغانستان أخذها الشيوعيون بالقوة قبل ذلك، وبلاد الأندلس أخذها النصارى بالقوة، وهكذا يبقى العدد محدوداً، لكن لو تساءلنا كم من البلاد الآن التي حكمها الإسلام يوماً من الأيام، وتجد في أهلها إسلاماً كثيراً، ومع ذلك تجدها بلاداً علمانية لا دينية.

وإذا كنت قبل قليل ذكرت لكم ما حصل في فرنسا في قصة هؤلاء البنات الثلاث، فإن المأساة هذه تتكرر في بلاد ارتفع عليها علم الإسلام يوماً من الأيام، وأصبحت تمنع الحجاب في جامعاتها وتحاربه وتحارب من يلبسه، وتعتبر هذا رمزاً للرجوع -كما يعبرون- إلى عصر الحريم، عصر القرون الوسطى، قرون التخلف، هكذا يعبرون، وهكذا يزعمون.

إذاً من أعظم الأشياء أن الأمة وقعت في أيدي المنافقين، يحاولون أن يمسخوها عن الإسلام مسخاً نهائياً ويلبسوها ثوباً آخر غير ثوب الإسلام، ويُدَيِّنوها بدين آخر غير دين الإسلام، والدين لا بد منه، إما الإسلام وإما غيره، فإذا ترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، إذا تركه الصالحون معنى ذلك: ارتفع المنافقون، وكما قال الله عز وجل عنهم: {الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمُنْكَرِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمَعْرُوفِ وَيَقْبِضُونَ أَيْدِيَهُمْ} [التوبة:67] .

كل مجتمع -وهذه قضية يحب أن تكون بديهية- كل مجتمع فيه قوتان: قوة المؤمنين وقوة المنافقين، المؤمنون والمؤمنات ذكوراً وإناثاً يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر، والمنافقون والمنافقات ذكوراً وإناثاً يأمرون بالمنكر وينهون عن المعروف، والمسألة صراع، والمجتمع يكون للذي تغلب من هاتين الفئتين.

ولذلك كانت قضية الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر عند المسلمين قضية مصيرية، لو أن واحداً أنكر -مثلاً-الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر- أنكر مشروعيته أصلاً- يكون بذلك مرتداً عن الإسلام، هذا من حيث التشريع أو المبدأ النظري.

لكن من حيث المبدأ العملي كان الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، هو أعظم مؤسسة وأعظم جهاز وأعظم عمل في حياة المسلمين، لماذا كان كذلك؟ لأنه من حق كل مسلم أن ينتسب إلى هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، كل مسلم من حقه ليس من حقه فقط بل من واجبه أن يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر، يأمر نفسه وغيره ويأمر في بيته ويأمر في السوق، وفي المسجد، وفي الشارع، وفي المتجر، وفي المدرسة، وفي المؤسسة، ويأمر الكبير والصغير والقريب والبعيد والمعروف والمجهول والذكر والأنثى، هكذا كان، ومع ذلك كله؛ لأن قضية الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر عند كل مسلم قضية دين، وليست قضية وظيفة، بل كانت أكبر من ذلك، لكن مع ذلك عني المسلمون بنظام ما يسمى بالحسبة، وهو من أقدم الأنظمة الإسلامية، وأعظمها.

نظام الحسبة الذي كان فيه أناس مختصون، مهمتهم ووظيفتهم الرئيسية، هي: القيام بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ماذا تتصور وظيفة رجال الحسبة التي بدأت بشكل واضح في عهد عمر رضي الله عنه وأرضاه، كانت وظيفة رجال الحسبة مراقبة المجتمع العام في كل شيء -كما أسلفت في بداية الحديث- مثلاً: وجدوا رجلاً يغش في البيع والشراء هذا يمنع، وجدوا شخصاً له دين عند آخر ورفض أن يعطيه يقوم رجال الحسبة بتحقيق هذا المطلب، وجدوا بيتاً يوشك أن يسقط، ويؤذي الناس، يقومون هم بمعالجة هذه القضية، وجدوا شارعاً ضيقاً يقومون هم بمعالجة هذه القضية، وتوسعة الشارع، إذا وجد من يؤذي الناس في أسواقهم يقومون بمنعه من ذلك.

إذاً كانت مهمتهم فضلاً عن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ومراقبة السلوك والأخلاق العامة، لكنني أريد أن أقول: إن مهمة رجال الحسبة في الإسلام كانت مهمة شمولية، أصبحت اليوم تسند إلى جهات كثيرة جداً، وربما تعجز عنها أو لا تقوم إلا بشيء يسير منها.

فكان رجل الحسبة هو آمر بالمعروف وناهٍ عن المنكر يصلح فيما بين الناس، يمنع الإيذاء أو الاعتداء على نظام المرور، يقوم بدور رجال البلدية في مراقبة المباني والأسواق وغيرها، يقوم بدور الغرفة التجارية وغيرها، ويقوم بمراقبة البيع والشراء والبضائع وأعمال الناس وما سواها.

وكانت الحسبة في الإسلام نظاماً عاماً شمولياً يهتم بمراقبة المجتمع في كل شيء، وعلى رأس ذلك مراقبة السلوك الأخلاقي، فإذا وجد إنسان يعصي أو يعتدي أو يشرب الخمر أو يؤذي المسلمين في أنفسهم أو في نسائهم أو في أموالهم كان هذا النظام يقوم بمنعه من ذلك، وما ذلك إلا لأنهم يدركون أن هذا قوام المجتمع المسلم، هذه هي النقطة الأولى التي أحببت أن أشير إليها، وهي قضية أهمية الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في المجتمع المسلم.

طور بواسطة نورين ميديا © 2015