روى ابن حبان وغيره، عن أنس رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم، قال في مرض موته: {أرحامكم، أرحامكم} صلوا أرحامكم، صلوا أرحامكم، فأمر صلى الله عليه وسلم بصلة الرحم، وكان يوصي بذلك في مرض الموت، وذلك لما في صلة الرحم من أثر في تقوية الأواصر الاجتماعية، وتُوفيد القلوب، وإزالة العدوات والبغضاء، ونزول الرحمة، قال الله عز وجل: {فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ * أُولَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمَى أَبْصَارَهُمْ * أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا} [محمد:22-24] .
وورد في حديث: {أن الرحمة لا تنزل على قوم فيهم قاطع رحم} وفي الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {لا يدخل الجنة قاطع رحم} قاطع الرحم لا يدخل الجنة، هكذا يقول صلى الله عليه وسلم، وكم من إنسان قد يصل أصدقاءه، ويحسن إليهم، ويستميت في خدمتهم، وتحقيق مطالبهم، والسهر على راحتهم، فإذا جاء الأمر فيما يتعلق بوالديه، وأرحامه، وأقاربه، فإنه لا يأبه بهم، ولا يتحمل من والديه كلمة خشنة، أو موقفاً صعباًً، وكثيرٌ من الشباب يستثقلون والديهم، ويضحكون من أعمالهم، وأقوالهم، وتصرفاتهم، وقد يستهزئون بهم، وقد يقولون لهم كلمات خشنة بذيئة، لا تليق أن تقال لرجل بعيد، فكيف بالقريب؟!! أخي الشاب! إنك مطالب -أصلاً- إذاً رأيت كبير السن، الذي شاب في الإسلام مفرقه، وشابت لحيته، وظهر عليه هذا الوقار، فأنت مطالب أصلاً أن تقدره، وتجله، وتخدمه، وتتلطف معه في القول، وتقدمه في المجالس، وفي كل شيء، فكيف إذا كان قريباً! فكيف إذا كان أبا أو كانت أماً؟ الأمر في ذلك أعظم وألزم، فلينتبه الشباب، وليعرف أن الصلة والبر من الأشياء التي تعجل ثمراتها في الدنيا، فإن الإنسان إن كان باراً بوالديه؛ عجلت له ثمرة ذلك في الدنيا، وأقلها أن يوفقه الله تعالى لمن يبره من أولاده، وأحفاده، وإن كان عاقاً، فإن الله تعالى يسلط عليه من أولاده وأولادهم من يعقه.
كان رجلٌ في الجاهلية له ولد، فأساء إليه، وظلمه، وضربه، فكان هذا الرجل يرفع رأسه، ويدعو عليه، ويقول: جزت رحم بيني وبين منازلٍ جزاءً كما يستنزل الدّين طالبه وربيته حتى إذا ما تركته أخا القوم واستغنى عن المسح شاربه تغمط حقي باطلاً ولوى يدي لوى يده الله الذي هو غالبه أئن رعشت كف أبيك وأصبحت يداك يدا ليثٍ فإنك ضاربه!! إذا: أصبحت يدا أبيك ترتعش من الكبر، والهرم، والضعف، والعجز، وأنت شاب قوي، فتيّ تستأسد عليه وتضربه! فكان يدعو عليه؛ فأصابه الله تعالى بالعقوبة العاجلة، والبلاء النازل.
وأخيراً: فإن من وصاياه صلى الله عليه وسلم في مرض موته، ما رواه النسائي، وابن حبان، والحاكم، وابن المبارك، في كتاب الزهد، وغيرهم: أن سلمان الفارسي رضي الله عنه لما حضرته الوفاة، ظهر منه بعض الجزع والحزن؛ فعرف ذلك بعض من حضروا.
فسألوه عن ذلك فقالوا له: ما الذي يحزنك ويجزعك؟ هل هذا جزع على الدنيا؟ فقال: كلا، ولكن النبي صلى الله عليه وسلم عهد إلي عهداً، وقال لي عند موته: {يكفي أحدكم من الدنيا زاد كزاد الراكب فجمعنا} قال: فجمعنا، إذاً سلمان الخير سلمان الفارسي حزين عند موته؛ يقول: لأن الرسول صلى الله عليه وسلم كان وهو يودعنا -وهو يفارق الدنيا- أوصانا بوصية، قال لنا: {يكفي أحدكم من الدنيا زاد كزاد الراكب} المسافر، فالمسافر لا يحمل من الزاد إلا قليل.
قال: فجمعنا.
ثم مات سلمان الفارسي، مات سلمان رضي الله عنه فجمعوا تركته، فكم كانت هذه التركة؟! كانت فقط خمسة عشر ديناراً!! خمسة عشر ديناراً، يموت عنها سلمان، يظهر أثرها في الجزع والحزن على وجهه وهو يموت رضي الله عنه والشاهد: وصية النبي صلى الله عليه وسلم عند موته، وأنه قال لأصحابه: {يكفي أحدكم من الدنيا زاد كزاد الراكب} .
فما بالكم بنا نحن الآن، ونحن نجمع القصور، والأموال الكثيرة، والسيارات الفخمة، والمراكب الفارهة، ونمد حبالاً طوالاً في هذه الدنيا، وكأننا نفعل فعل الخالدين.
سبحان الله! كما قال أبو الدرداء رضي الله عنه، يوماً من الأيام، صعد على منبر دمشق فقال: [[يا أهل دمشق؛ فاجتمعوا إليه -أبوالدرداء عويمر رضي الله عنه من خيار الصحابة وزهادهم وعلمائهم، كانوا يحبونه حباً شديداً؛ فلما سمعوه يصرخ ويصيح يا أهل دمشق: اجتمعوا إليه- لبيك يا أبا الدرداء.
قال: ألا تسمعون وصية أخٍ لكم، مشفق، ناصح؟ قالوا: بلى، قل -رحمك الله- قال: إن من كان قبلكم، كانوا يجمعون كثيراً، ويؤملون كثيراً، ويبنون كثيراً، فأصبح جمعهم بدداً، وأصبح بنيانهم بوراً، وأصبحت قصورهم قبوراً، هؤلاء عاد الذين ملكوا البلاد، وأكثروا فيها الفساد، تركوا ما تركوا، فمن يشترى مني تركتهم بدرهمين؟ من يشترى منى تركتهم بدرهمين]] فكان النبي عليه الصلاة والسلام يكثر أن يوصي أصحابه بالتقلل من الدنيا.
وفي الصحيحين عن ابن عمر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال له: {كن في الدنيا كأنك غريب أو عابر سبيل} غريب أو عابر سبيل، أما الغريب: فمثل إنسان مقيم في بلد إقامة معينة، وهو غريب غير معروف، لا يعرفه أحد؛ فتجد هذا الغريب يتقلل من الدنيا، لكن أشد من الغريب عابر السبيل -إنسان مسافر- لكن لما مر بهذا البلد قال: أريد أن أغير حاجيات السيارة، وأشتري ماءً بارداً، وأرتاح قليلاً، ثم أواصل السفر، عابر سبيل وكان ابن عمر يقول: [[إذا أمسيت، فلا تنتظر الصباح، وإذا أصبحت، فلا تنتظر المساء، وخذ من صحتك لمرضك، ومن حياتك لموتك]] .